والتحقق (1) بمجاري البلاغات - فإنما يكفيك التأمل، ويغنيك التصور.
وإن كنت في الصنعة مرمدا، وفى المعرفة بها متوسطا، فلا بد / لك من التقليد، ولا غنى بك عن التسليم. إن الناقص في هذه الصنعة كالخارج عنها، والشادي فيها كالبائن منها.
فإن أراد أن نقرب عليه أمرا (2)، ونفسح له طريقا، ونفتح له بابا - ليعرف به إعجاز القرآن - فإنا نضع بين يديه الأمثلة، ونعرض عليه الأساليب، ونصور له صور (3) كل قبيل من النظم والنثر، ونحضره (4) من كل فن من القول شيئا يتأمله حق تأمله، ويراعيه حق رعايته (5)، فيستدل استدلال العالم، ويستدرك استدراك (6) الناقد، ويقع (7) له الفرق بين الكلام الصادر عن الربوبية، الطالع عن الإلهية، الجامع بين الحكم والحكم، والاخبار عن الغيوب والغائبات، والمتضمن لمصالح الدنيا والدين، والمستوعب لجلية اليقين، والمعاني المخترعة في تأسيس أصل الشريعة وفروعها بالألفاظ الشريفة، على تفننها وتصرفها. ونعمد إلى شئ من الشعر المجمع عليه، فنبين وجه النقص فيه، وندل على انحطاط رتبته، ووقوع أبواب الخلل فيه، حتى إذا تأمل ذلك، وتأمل ما نذكره - من تفصيل إعجاز القرآن وفصاحته، وعجيب براعته - انكشف له واتضح، وثبت / ما وصفناه لديه ووضح، وليعرف حدود " البلاغة "، ومواقع البيان " والبراعة " ووجه التقدم في " الفصاحة ".
وذكر الجاحظ في كتاب البيان والتبيين (8): أن الفارسي سئل، فقيل له:
ما " البلاغة "؟ فقال: معرفة الفصل من الوصل.
وسئل اليوناني عنها؟ فقال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام.
وسئل الرومي عنها؟ فقال: حسن الاقتضاب عند البداهة (9)، والغزارة يوم الإطالة.