عن كيدهن أو لم يصرفهن.. الجواب قلنا أما قوله عليه السلام (رب السجن أحب إلي) ففيه وجهان من التأويل.. أولهما ان المحبة متعلقة في ظاهر الكلام بما لا يصح على الحقيقة أن يكون محبوبا مرادا لأن السجن إنما هو الجسم والأجسام لا يجوز أن يريدها وإنما يريد الفعل فيها والمتعلق بها والسجن نفسه ليس بطاعة ولا معصية وإنما الأفعال فيه قد تكون طاعات ومعاصي بحسب الوجوه التي يقع عليها فادخال القوم يوسف عليه السلام الحبس أو اكراههم له على دخوله معصية منهم وكونه فيه وصبره على ملازمته والمشاق التي تناله باستيطانه كان طاعة منه وقربة وقد علمنا أن ظالما لو أكره مؤمنا على ملازمة لبعض المواضع وترك التصرف في غيره لكان فعل المكره حسنا وإن كان فعل المكوره قبيحا وهذه الجملة تبين أن لا ظاهر في الآية يقتضى ما ظنوه وانه لابد من تقدير محذوف يتعلق بالسجن وليس لهم أن يقدروا ما يرجع إلى الحابس من الأفعال إلا ولنا أن نقدر ما يرجع إلى المحبوس وإذا احتمل الكلام الأمرين ودل الدليل على أن النبي لا يجوز أن يريد المعاصي والقبائح اختص المحذوف المقدر بما يرجع إليه مما ذكرناه وذلك طاعة لا لوم على مريده ومحبه.. فان قيل كيف يجوز أن يقول السجن أحب إلى وهو لا يحب ما دعوه إليه ومن شأن مثل هذه اللفظة أن تدخل بين ما وقع فيه اشتراك في معناها وان فضل البعض على البعض.. قلنا قد تستعمل هذه اللفظة في مثل هذا الموضع وان لم يكن في معناها اشتراك على الحقيقة ألا ترى ان من خير بين ما يحبه وما يكرهه جائز أن يقول هذا أحب إلى من هذا وان لم يجز مبتدئا أن يقول من غير أن يخير هذا أحب إلى من هذا إذا كان لا يحب أحدهما جملة وإنما سوغ ذلك على أحد الوجهين دون الآخر من حيث كان المخير بين الشيئين لا يخير بينهما إلا وهما مرادان له ومما يصح أن يريدهما فموضوع التخيير يقتضي ذلك وان حصل فيما ليس هذه صورته والمجيب على هذا متى قال كذا أحب إلى من كذا مجيبا على ما يقتضيه موضوع التخيير وان لم يكن الأمران على الحقيقة يشتركان في تناول محبته ومما يقارب ذلك قوله تعالى (قل أذلك خير أم جنة الخلد) ونحن نعلم أن لا خير في العقاب وإنما حسن ذلك لوقوعه موقع التوبيخ والتقريع على اختيار
(١٣٤)