وقد سبق أن تكلمنا عن الاضطهادات التي واجهت المسيحية منذ عهدها الأول، تلك الاضطهادات التي كان عيسى نفسه ضحيتها، وقد استمرت الاضطهادات بعد عيسى فأحاقت بحوارييه وأتباعه، وكان من أسباب ذلك أن فنيت المسيحية أو أوشكت، ويقول Berry: وبعد صلب المسيح ذاب أتباعه واختفت دعوته ولم يعد أحد يسمع شيئا عن هذه الدعوة (1).
في خلال هذا الظلام الحالك دخل بولس المسيحية، وأحاط نفسه بالضمانات التي سبق أن أوردناها، فلم يقيد نفسه بما تلقاه سواه عن عيسى، بل راح يقول في صراحة إنه الوحيد الذي اؤتمن على المسيحية الصحيحة (2) وعلى إنجيل مجد الله المبارك (3)، وأن كل ما يخالف ما يقول به من تعاليم، كلام باطل دنس، مخالف للعلم، كاذب الاسم، يتظاهر به قوم زاغوا عن الإيمان، ولهذا يجب الإعراض عن مثل هذا الكلام (4).
وراح بولس يعلن ديانة استمد لها عناصر من الثقافات الأجنبية التي كان بولس على علم واسع بها، يقول Wells (وقد أوتي بولس قوة عقلية عظيمة، كما كان شديد الاهتمام بحركات زمانه الدينية، فتراه على علم عظيم باليهودية والميتراسية وديانة ذلك الزمان التي تعتنقها الإسكندرية، فنقل إلى المسيحية كثيرا من فكراتهم ومصطلح تعبيرهم، ولم يهتم بتوسيع فكرة عيسى الأصلية وتنميتها، وهي فكرة (ملكوت السماوات) ولكنه علم الناس أن عيسى لم يكن المسيح الموعود فحسب، بل إنه ابن الله نزل إلى الأرض ليقدم نفسه قربانا ويصلب تكفيرا عن خطيئة البشر، فموته كان تضحية مثل ممات الضحايا القديمة من الآلهة في أيام الحضارات البدائية من أجل خلاص البشرية (5)).