فالتفويض بمعنى جعل ممكن مستقلا في الوجود والإيجاد غير معقول، فالموجودات الإمكانية - مجردها وماديها - كما أنها مستندة الوجود إلى الإرادة الإلهية فكذلك في أفعالها وآثارها مستندة إلى الإرادة الإلهية. ومنها أفعال الإنسان مأخوذة بجميع مبادئها، فإن الإرادة الواجبية إنما تعلقت بالفعل الصادر من الإنسان عن إرادة واختيار.
فما ذكره المفوضة من كون الأفعال الإنسانية غير مرتبطة الوجود بالله سبحانه ساقط من أصله، كما أن ما ذهب إليه المجبرة من أن تعلق الإرادة الواجبية بأفعال الإنسان يوجب بطلان إرادته واختياره فاسد جدا، كما سيجئ من ذي قبل.
ثم استشهد (قدس سره) على بطلان التفويض بما أعلن الله تعالى عن عجز كل من يدعون من دون الله من آلهة مختلفة وأرباب مفتراة - من جنس الأصنام أو الأشخاص - يستنصرون بها من دون الله ويطلبون منها قضاء الحاجات، كلهم يعجزون عن خلق الذباب الصغير وإن اجتمعوا له بل الأمر أعجب من هذا فإنه إن يسلبهم الذباب شيئا يعجزون عن رد المسلوب.
فإذا كان هذا شأن المدعوين بالربوبية فما ظنك بغيرهم من الأكوان المودوع فيها النفع والضرر، التي يتوجه الناس إليها للجلب والدفع وأكثرهم يركنون إليها باستقلال التأثير * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) * (يوسف: 105)؟! أعاذنا الله تعالى.
هذا الوجه المشار إليه - كما ترى - مشتمل على أحكام ثلاثة للوجود:
أحدها: أصالة الوجود، بمعنى أنه هو الحقيقة العينية دون الماهية، فإنا بعد التنبه على كون واقعية الأشياء بينة ضرورية - قبال السوفسطائية - وجدناها في عين أنها متحدة في الواقعية مختلفة متمايزة فنجد فيها - مثلا - إنسانا موجودا وفرسا موجودا وشجرا موجودا إلى غير ذلك، فلها ماهيات يباين بعضها بعضا ووجود مشترك المعنى بينها، وبديهي أن المشترك غير المختص.