وأيضا المستقل في الإيجاد لا بد وأن يكون مستقلا في الوجود، لأن الإيجاد فرع الوجود، ولا يمكن أشرفيته عنه، فالتفويض بمعنى جعل ممكن مستقلا في الفاعلية مستحيل ومستلزم للانقلاب المستحيل، سواء في ذلك المجرد والمادي، والفاعل المختار وغيره. فلا يعقل تفويض الإيجاد والفعل والأثر والخواص إلى موجود * (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب * ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز) * (1) [19].
وأما ما يطلق عليه الفاعل في عرف الطبيعيين فهو مما لا يفيد غير تحريك القابل وإعداده وتقريبه إلى واهب الصور، فإن الأب - مثلا - علة لتحريك المني إلى الرحم، وأما إيجاده حيوانا فعلته واهب الصور. وكذا النار الماسة بالفحم المجاور ليست علة لوجود الصورة النارية فيه، بل هي معدة له لإفاضة الصورة عليه.
[19] يريد أن يبرهن ثالثا على بطلان التفويض، بأن علل الآثار ومبادئها الإمكانية - ومنها الإنسان - لو كانت مستقلة في الإيجاد ومنقطعة عن الواجب القيوم - تعالى شأنه - لكانت مستقلة في أصل وجودها ومنقطعة عنه سبحانه.
بيان الملازمة: أن الإيجاد متفرع على وجود الموجد وظل له، فلا يمكن أشرفيته بالاستقلال عن أصله، فيجب أن تكون تلك المبادئ والعلل في وجودها مستقلة ومنقطعة عن بارئها سبحانه أيضا، وذلك ممتنع:
أما أولا، فلأن هوياتها - كما عرفت - روابط محضة، وفرض استقلالها وانقطاعها عن الإرادة الإلهية عين فرض بوارها وانعدامها.
وأما ثانيا - على فرض تسليم هذا المحال - فلأنه يستلزم الانقلاب المستحيل، يعني انقلاب الممكن بالذات إلى الواجب بالذات.