فهذا الخبر صريح في كونهما كاسبي الخط ومتكلفي تحصيله وتحسينه، فدل على أن كمالاتهم العلمية والعملية كانت في بدو فطرتهم وزمان خلقتهم بالقوة، وإنما صارت بالفعل بالتعلم والتكسب شيئا بعد شئ وعلى سبيل التدريج كما في سائر أفراد النوع.
وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام) أنه " سئل عن العلم أهو شئ يتعلمه العالم من أفواه الرجال أم في الكتاب عندكم تقرؤونه فتعلمون منه؟ قال: الأمر أعظم من ذلك وأوجب، أما سمعت قول الله عز وجل: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * (1) ثم قال (عليه السلام): بلى قد كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان حتى بعث الله عز وجل الروح التي ذكرها في الكتاب، فلما أوحاها إليه علم بها العلم والفهم وهي التي يعطيها الله عز وجل من يشاء، فإذا أعطاها عبدا علمه الفهم " (2). فدل على أن قبل إعطائها كانوا محتاجين إلى التعلم والتفهم وإن صاروا بعده مستغنين عنهما، وهذا خارج عما فرض الكلام فيه.
فإن قلت: دلالة هذه الأخبار على تعلمهم غير مسلمة، والسنة جوز كونهم في الكتاب عند المعلمين من غير أن يتعلموا منهم.
قلت: هذا مع كونه خلاف الظاهر منها خلاف المتعارف أيضا، إذ لم يعهد أن يرسل الصبي إلى الكتاب لمجرد أن يكون فيها وهو غير محتاج إلى التعلم منهم، ومدار الاستدلال من الآيات والروايات من السلف إلى الخلف على الظاهر المتبادر، ولا يقدح فيه الاحتمالات البعيدة الغير المنساقة إلى الأذهان.
وأما ما اشتهر بين الطلبة من قولهم: " إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال " فإنما هو في العقليات الصرفة المطلوب فيها اليقين، وأما في النقليات التي يكتفى فيها بمجرد تحصيل الظن فلا.