وأوقد النيران حوله، وهو يصيح: البرد البرد، ثم أتي بالسمكة وقد فرغ من قليها، فلم يقدر على الذوق منها، وشغله ما هو فيه عن تناول شيء منها.
ولما اشتد به الأمر، سأل المعتصم بختيشوع وابن ماسويه في ذلك الوقت عن المأمون، وهو في سكرات الموت، وما الذي يدل عليه علم الطب من أمره، وهل يمكن برؤه وشفاؤه؟ فتقدم ابن ماسويه وأخذ إحدى يديه، وبختيشوع الأخرى، وأخذ المجسة من كلتا يديه، فوجدا نبضه خارجا عن الاعتدال، منذرا بالفناء والانحلال، والتزقت أيديهما ببشرته، لعرق كان يظهر منه، من سائر جسده، كالزيت أو كلعاب بعض الأفاعي، فأخبرا المعتصم بذلك، فسألهما عن ذلك، فأنكرا معرفته، وإنهما لم يجداه في شيء من الكتب، وإنه دال على انحلال الجسد.
فأحضر المعتصم الأطباء حوله يؤمل خلاصه مما هو فيه، فلما ثقل قال:
أخرجوني أشرف على عسكري، وأنظر إلى رجالي، وأتبين ملكي، وذلك في الليل، فأخرج فأشرف على الخيم والجيش وانتشاره وكثرته، وما قد وقد من النيران، فقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه. ثم رد إلى مرقده وأجلس المعتصم رجلا يشهده لما ثقل، فرفع الرجل صوته ليقولها، فقال له ابن ماسويه:
لا تصح، فوالله ما يفرق بين ربه وبين ماني في هذا الوقت. ففتح عينيه من ساعته، وبهما من العظم والكبر والاحمرار ما لم ير مثله قط، وأقبل يحاول البطش بيديه بابن ماسويه، ورام مخاطبته فعجز عن ذلك، وقضى عن ساعته وذلك لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب، سنة ثماني عشرة ومئتين، وحمل إلى طرسوس، فدفن بها (1).