فأكرمه عمرو وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم تكن للعرب بها أنسة ما هاله ففتن به. وكان عمرو عاقلا حسن الاستماع صحيح الفكر فلازمه، وكان لا يفارقه ثم قال له يحيى نوما: إنك قد أحطت بحواصل الإسكندرية وختمت على كل الأشياء الموجودة بها، فما لك به انتفاع فلا أعارضك فيه، وما لا انتفاع لك به فنحن أولى به. فقال له عمرو: وما الذي تحتاج إليه؟ قال: كتب الحكمة التي في خزائن الملوكية، فقال له عمرو: لا يمكنني أن آمر فيها إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
وكتب إلى عمر وعرفه قول يحيى، فورد عليه كتاب عمر يقول فيه:
وأما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله، ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله، فلا حاجة إليه فتقدم بإعدامها. فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات الإسكندرية وإحراقها في مواقدها. فاستنفدت في ستة أشهر، فاسمع ما جرى واعجب. أه.
وإذا حللنا حكاية أبي الفرج تحليلا دقيقا وجدناها عبارة عن محض اختلاق وافتراء لا أساس لهما.
وقد فندها كل من (جبون) و (بطلر) و (سديو) وكذلك شبلي أفندي العماني و (چوستاف ليبون) وغيرهم فقال (جبون) في تاريخه:
بعد ما نقل كتاب أبي الفرج إلى اللاتينية، وتناقل خبر تلك المكتبة تأسف الكتاب كلهم لضياع كثير من العلم والأدب. وأما أنا (يعني نفسه) فإني شديد الميل إلى إنكار الحقيقة وما ترتب عليها من النتائج. والغريب أن هذه الرواية يذكرها رجل من أطراف بلادماى (الفرس) بعد فتح الإسكندرية بستمائة سنة، ولا يكتبها مؤرخان مسيحيان من مصر وأقدمهما البطريرق (أوتيخوس) الذي أسهب في فتح الإسكندرية. على أن تعاليم الإسلام تخالف هذه الرواية، إذ ترمي إلى عدم التعرض للكتب