قال: ثم غمى عليه ساعة، فإذا أفاق من غشيته قال: اللهم اغفر لي ذنوبي فيما مضى من عمري! فأنا أشهد أنك تعلم أني أحبك.
قال: وأغمي عليه ثانية فقام الناس وخرجوا من عنده، وجاءه الليل واشتد به الامر فقال لجاريته: يا فلانة! انظري هل أصبحنا، فنظرت الجارية ثم قالت: لا، فسكت ساعة ثم قال: يا جارية! انظري هل أصبحنا، فنظرت الجارية وقالت: لا، فسكت ساعة ثم قال: يا جارية! انظري هل أصبحنا، فنظرت ثم رجعت فقالت:
نعم، فقال معاذ: أعوذ بالله من ليلة يكون صباحها إلى النار! ثم قال: مرحبا بالموت! مرحبا به زائرا جاء على فاقة! لا أفلح بعد الممات من ندم، اللهم! إنك تعلم أني لم أكن أحب هذه الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن (1) كنت أحبها لمكابدة الساعات (1) وظمأ الهواجر ومزاحمة العلماء في حلق الذكر.
فقال له رجل من الصحابة (2): يا أبا عبد الرحمن! زدنا رحمك الله! زدنا من مواعظك وأوصنا بوصية نأخذها عنك، فإنا لا نلتقي في هذه الدنيا، فقال معاذ:
حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها ليست ساعة الكذب هذه الساعة، إنه لا يموت عبد من عبيد الله وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور (3) إلا وأدخله عز وجل الجنة وحرم عليه النار.
قال: فقال له عبد الرحمن بن غنم الثمالي: زدنا رحمك الله! فقال معاذ:
نعم، عليكم بطلب العلم، فاطلبوه وتعلموه، فإن طلبه عبادة، وتعلمه لله خشية، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل الجنة، والانس في الوحشة والمحدث في الخلوة، والصاحب في الغربة، والسلاح على الأعداء، والتزين عند الاخلاء، والتقرب والدليل على السراء والضراء، يرفع الله عز وجل به أقواما فيجعلهم في الخير قادة يقتدى بهم، وأئمة في الخير يقتص آثارهم ويهتدي بهدايتهم وأفعالهم، وينتهي إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلتهم، [و] بأجنحتها