في وقت ما، وقد سبق في علم الله عز وجل أنه سيحيلنا عنه إلى غيره في وقت آخر، فإذا جاء ذلك الوقت بين لنا تعالى ما كان مستورا عنا من النقل عن ذلك العمل إلى غيره، وبالجملة فإن اسم البيان يعم جميع أحكام الشريعة كلها، لأنها كلها إعلام من الله تعالى لنا، وبيان المراد منا.
فإن قال قائل: ليس النسخ من البيان، لان البيان يقع في الاخبار، والنسخ لا يقع في الاخبار، قيل له وبالله تعالى التوفيق: إننا لم نقل: إن النسخ هو البيان، وإنما قلنا: هو نوع من أنواع البيان، فكل نسخ بيان، وليس كل بيان نسخا، فمن البيان ما يقع في الاخبار وفي الأوامر، ومنه ما يقع في الأوامر فقط، فمن هذا النوع الواقع في الأوامر، النسخ هو رفع لأمر متقدم، وقد يكون أيضا بيان يقع في الأوامر ليس نسخا، لكنه تفسير لجلة، إلا أنه لا يجوز لاحد أن يحمل شيئا من البيان على أنه نسخ رافع لأمر متقدم، إلا بنص جلي في ذلك أو إجماع أو برهان ضروري، على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى في باب كيفية معرفة المنسوخ من المحكم.
ألا ترى أن قوله تعالى: * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * فلسنا نقول: أنه نسخ أهل الكتاب من هذا الحكم، لكنا نقول إن المراد بقوله تعالى في هذه الآية: * (فاقتلوا المشركين) * إنما هم من عدا أهل الكتاب، وبين ذلك تعالى في استثنائه أهل الكتاب في الآية الأخرى. وهكذا قولنا في آية الرضاع، وآية قطع السارق، وقوله تعالى: * (ألف سنة إلا خمسين عاما) * فنقول بلا شك: إن الله تعالى لم يرد بذلك كل رضاعة، ولا كل سارق، ثم نسخ ذلك عن بعضهم: وكذلك قوله تعالى: * (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * فإنه تعالى لم يرد بذلك العبيد والإماء، ثم نسخ خمسين عنهم ولا ألف سنة كاملة، ثم استدرك تعالى إسقاط الخمسين عاما، لكنه تعالى أراد في كل ما ذكرناه ما بقي عندما استثنى عز وجل وخص من كل ذلك، وكذلك قولنا في قوله تعالى: * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * أنه تعالى لم يرد كل ما يقع عليه اسم نسك أو صدقة، أو اسم صيام، لكن أراد ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث لكعب بن عجرة.
فإن قال قائل: إن البيان يقع موصولا بعضه ببعض، والنسخ لا يقع موصولا،