وأما لو كانت حجية البعض مما فيه الكفاية مظنونة بخصوصه بخلاف الباقي كان ذلك أقرب إلى الحجية من غيره مما لم يقم على حجيته كذلك دليل، فيتعين عند العقل الأخذ به دون غيره، فإن الرجحان حينئذ قطعي وجداني، والترجيح من جهته ليس ترجيحا بمرجح ظني بل قطعي وإن كان ظنا بحجية تلك الظنون، فإن كون المرجح ظنا لا يقتضي كون الترجيح ظنيا، وهو ظاهر.
والحاصل: أن العقل بعد حكمه بحجية الظن في الجملة ودوران الأمر عنده بين القول بحجية خصوص ما قام الدليل الظني على حجيته من الظنون والبناء على حجية ذلك وغيره مما لم يقم دليل على حجيته من سائر الظنون لا يحكم إلا بحجية الأول، لترجيحه على غيره في نظر العقل قطعا، فلا يحكم بحجية الجميع من غير قيام دليل على العموم.
الرابع:
إنه بعد قضاء المقدمات الثلاث بحجية الظن على سبيل الإهمال وإن اكتفينا بالمرجح الظني كما مر في الوجه السابق كان ما دل على حجية الدليل الظني هو المتبع دون غيره حسب ما قرر في الوجه المتقدم. وإن سلمنا عدم العبرة به وتساوي الظنون حينئذ بالملاحظة المذكورة بالنسبة إلى الحجية وعدمها فاللازم حينئذ حجية الجميع إلا ما قام الدليل المعتبر على عدمه، ومن الدليل المعتبر حينئذ هو الدليل الظني، لقيامه مقام العلم، فإذا قضى الدليل الظني بكون الحجة هي الظنون الخاصة دون غيرها تعين الأخذ بها دون ما سواها، فإنه بمنزلة الدليل القاطع الدال عليه كذلك.
فإن قلت: إذا قام الدليل القاطع على حجية بعض الظنون مما فيه الكفاية كانت القضية المهملة الثابتة بالدليل المذكور منطبقة عليه فلا يتسرى الحكم منها إلى غيرها حسب ما مر. وأما إذا قام الدليل الظني على حجية بعض الظنون كذلك لم يكن الحال فيها على ما ذكر. وإن قلنا بقيام الظن مقام العلم وتنزيله منزلته فلا وجه إذن للاقتصار عليه، إذ الدليل الدال على حجيته هو الدال على حجية الباقي.