أنه يدرك كل شئ مع الخبرة به; وإنما خص الأبصار بإدراكه ليزيد في الكلام ضربا من المحاسن يسمى التعطف; ولو كان الكلام: لا تبصره الأبصار، وهو يبصر الأبصار لم تكن لفظتا * (اللطيف الخبير) * مناسبتين قبل لما قبلهما.
ومنه قوله تعالى: * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير. له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغنى الحميد) *، إلى قوله: * (لرءوف رحيم) * إنما فصل الأولى ب " لطيف خبير " لأن ذلك في موضع الرحمة لخلقه بإنزال الغيث وإخراج النبات من الأرض، ولأنه خبير بنفعهم. وإنما فصل الثانية ب " غنى حميد " لأنه قال: * (له ما في السماوات وما في الأرض) *، أي لا لحاجة; بل هو غنى عنهما، جواد بهما; لأنه ليس غنى نافعا غناه إلا إذا جاد به، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليه، واستحق عليه الحمد; فذكر " الحمد " على أنه الغنى النافع بغناه خلقه. وإنما فصل الثالثة ب " رؤوف رحيم "، لأنه لما عدد للناس ما أنعم به عليهم من تسخير ما في الأرض لهم، وإجراء الفلك في البحر لهم، وتسييرهم وكان في ذلك الهول العظيم، وجعله السماء فوقهم وإمساكه إياها عن الوقوع، حسن ختامه بالرأفة والرحمة. ونظير هذه الثلاث فواصل مع اختلافها قوله تعالى في سورة الأنعام: * (وهو الذي جعل لكم النجوم...) *، الآيات.
وقوله تعالى: * (له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغنى الحميد). فقال: " الغنى الحميد " لينبه على أن ما له ليس لحاجة بل هو غنى عنه، جواد به، وإذا جاد به حمده المنعم عليه. إذ " حميد " كثير المحامد الموجبة تنزيهه عن الحاجة والبخل وسائر النقائض، فيكون " غنيا " مفسرا بالغنى المطلق، لا يحتاج فيه لتقدير " غنى عنه ".