هذا هو الأول المكي، وهذا هو الآخر المدني. وكذلك الصحابة والتابعون من بعدهم لما لم يعتبروا أن من فرائض الدين تفصيل جميع المكي والمدني مما لا يسوغ الجهل به، لم تتوفر الدواعي على إخبارهم به، ومواصلة ذكره على أسماعهم، وأخذهم بمعرفته. وإذا كان كذلك ساغ أن يختلف في بعض القرآن هل هو مكي أو مدني، وأن يعلموا في القول بذلك ضربا من الرأي والاجتهاد، وحينئذ فلم يلزم النقل عنهم ذكر المكي والمدني، ولم يجب على من دخل في الاسلام بعد الهجرة أن يعرف كل آية أنزلت قبل إسلامه: مكية أو مدنية.
فيجوز أن يقف في ذلك أو يغلب على ظنه أحد الأمرين; وإذا كان كذلك بطل ما توهموه من وجوب نقل هذا أو شهرته في الناس; ولزوم العلم به لهم، ووجوب ارتفاع الخلاف فيه.
فصل قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري في كتاب " التنبيه على فضل علوم القرآن " من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء، وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، ثم ما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزل المدني في المكي، ثم ما نزل بالجحفة، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، ثم ما نزل ليلا، وما نزل نهارا، وما نزل مشيعا، وما نزل مفردا، ثم الآيات المدنيات في السور المكية، والآيات المكية في السور المدنية، ثم ما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة، وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة، ثم ما نزل مجملا، وما نزل مفسرا، وما نزل مرموزا، ثم ما اختلفوا فيه، فقال بعضهم: مدني. هذه خمسة وعشرون وجها; من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى.