توكل على الله أنفق ولم يخش من ذي العرش إقلالا وعلم أن الله سيخلفه عليه وقوله تعالى " لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " أي لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله وذلك أن قبل فتح مكة كان الحال شديدا فلم يكن يؤمن حينئذ إلا الصديقون وأما بعد الفتح فإنه ظهر الاسلام ظهورا عظيما ودخل الناس في دين الله أفواجا ولهذا قال تعالى " أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى " والجمهور على أن المراد بالفتح ههنا فتح مكة وعن الشعبي وغيره أن المراد بالفتح ههنا صلح الحديبية وقد يستدل لهذا القول بما قال الإمام أحمد حدثنا أحمد بن عبد الملك حدثنا زهير حدثنا حميد الطويل عن أنس قال كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال خالد لعبد الرحمن تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم " ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد المواجه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبية وفتح مكة وكانت هذه المشاجرة بينهما في بني جذيمة الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بعد الفتح فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فأمر خالد بقتلهم وقتل من أسر منهم فخالفه عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر وغيرهما فاختصم خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث ابن وهب أخبرنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم " فقلنا من هم يا رسول الله أقريش؟ قال " لا ولكن أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا " فقلنا أهم خير منا يا رسول الله؟ قال " لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه إلا أن هذا فضل ما بيننا وبين الناس " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعلمون خبير ". وهذا الحديث غريب بهذا السياق.
والذي في الصحيحين من رواية جماعة عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد ذكر الخوارج " تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " الحديث ولكن روى ابن جرير هذا الحديث من وجه آخر فقال: حدثني ابن البرقي حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم عن أبي سعيد التمار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا من هم يا رسول الله قريش؟ قال " لا ولكن أهل اليمن لانهم أرق أفئدة وألين قلوبا " وأشار بيده إلى اليمن فقال " هم أهل اليمن ألا إن الايمان يمان والحكمة يمانية " فقلنا يا رسول الله هم خير منا؟
قال: " والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدى مد أحدكم ولا نصيفه " ثم جمع أصابعه ومد خنصره وقال " ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير " فهذا السياق ليس فيه ذكر الحديبية فإن كان ذلك محفوظا كما تقدم فيحتمل أنه أنزل قبل الفتح إخبارا عما بعده كما في قوله تعالى في سورة المزمل وهي مكية من أوائل ما نزل " وآخرون يقاتلون في سبيل الله " الآية فهي بشارة بما يستقبل وهكذا هذه والله أعلم. وقوله تعالى " وكلا وعد الله الحسنى " يعني المنفقين قبل الفتح وبعده كلهم لهم ثواب على ما عملوا وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء كما قال تعالى " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما " وهكذا الحديث الذي في الصحيح " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير " وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب الآخر