يقول تعالى لهذه الأمة " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك " فذكر أول الرسل بعد آدم عليه السلام وهو نوح عليه السلام وآخرهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم وهو إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت آية الأحزاب عليهم في قوله تبارك وتعالى " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم " الآية والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال عز وجل " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ". وفي الحديث " نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد " أي القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم كقوله جل جلاله " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " ولهذا قال تعالى ههنا " أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " أي أوصى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والجماعة ونهاهم عن الافتراق والاختلاف. وقوله عز وجل " كبر على المشركين ما تدعوهم إليه " أي شق عليهم وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد. ثم قال جل جلاله " الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب " أي هو الذي يقدر الهداية لمن يستحقها ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد ولهذا قال تبارك وتعالى " وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم " أي إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم وقيام الحجة عليهم وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد والمشاقة ثم قال عز وجل " ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى " أي لولا الكلمة السابقة من الله تعالى بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد لعجل عليهم العقوبة في الدنيا سريعا. وقوله جلت عظمته " وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم " يعني الجيل المتأخر بعد القرن الأول المكذب للحق " لفي شك منه مريب " أي ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا برهان وهم في حيرة من أمرهم وشك مريب وشقاق بعيد فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لاعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير (15) اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات كل منها منفصلة عن التي قبلها حكم برأسها قالوا ولا نظير لها سوى آية الكرسي فإنها أيضا عشر فصول كهذه. وقوله " فلذلك فادع " أي فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم فادع الناس إليه. وقوله عز وجل " واستقم كما أمرت " أي واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله تعالى كما أمركم الله عز وجل وقوله تعالى " ولا تتبع أهواءهم " يعني المشركين فيما اختلفوا فيه وكذبوه وافتروه من عبادة الأوثان. وقوله جل وعلا " وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب " أي صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء لا نفرق بين أحد منهم. وقوله " وأمرت لاعدل بينكم " أي في الحكم كما أمرني الله وقوله جلت عظمته " الله ربنا وربكم " أي هو المعبود لا إله غيره فنحن نقر بذلك اختيارا وأنتم وإن لم تفعلوه اختيارا فله يسجد من في العالمين طوعا وإجبارا. وقوله تبارك وتعالى " لنا أعمالنا ولكم أعمالكم " أي نحن برآء منكم كما قال سبحانه وتعالى " وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون " وقوله تعالى " لا حجة بيننا وبينكم " قال مجاهد أي لا خصومة قال السدي وذلك قبل نزول آية السيف وهذا متجه لأن هذه الآية مكية وآية السيف بعد الهجرة. وقوله عز وجل " الله يجمع بيننا " أي يوم القيامة كقوله " قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا
(١١٨)