المسألة الثالثة: احتج القاضي بقوله تعالى: * (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين) * فقال إن كان خلق فيهم الكفر ليدخلهم النار فما الذي نفه بقوله * (وما ظلمناهم) * وما الذي نسبه إليهم مما نفاه عن نفسه؟ أو ليس لو أثبتناه ظلما لهم كان لا يزيد على ما يقوله القوم، فإن قالوا ذلك الفعل لم يقع بقدرة الله عز وجل فقط، بل إنما وقع بقدرة الله مع قدرة العبد معا، فلم يكن ذلك ظلما من الله.
قلنا: عندكم أن القدرة على الظلم موجبة للظلم، وخالق تلك القدرة هو الله تعالى، فكأنه لما فعل مع خلق الكفر قدرة على الكفر خرج عن أن يكون ظالما لهم، وذلك محال لأن من يكون ظالما في فعل، فإذا فعل معه ما يوجب ذلك الفعل يكون بذلك أحق، فيقال للقاضي قدرة العبد هل هي صالحة للطرفين أو هي متعينة لأحد الطرفين؟ فإن كانت صالحة لكلا الطرفين فالترجيح إن وقع لا لمرجع لزم نفي الصانع، وإن افتقر إلى مرجح عاد التقسيم الأول فيه، ولا بد وأن ينتهي إلى داعية مرجحة يخلقها الله في العبد، وإن كانت متعينة لأحد الطرفين فحينئذ يلزمك ما أوردته علينا.
واعلم أنه ليس الرجل من يرى وجه الاستدلال فيذكره، إنما الرجل الذي ينظر فيما قبل الكلام وفيما بعده، فإن رآه واردا على مذهبه بعينه لم يذكره والله أعلم.
المسألة الرابعة: قرأ ابن مسعود * (يا مال) * بحذف الكاف للترخيم فقيل لابن عباس إن ابن مسعود قرأ * (ونادوا يا مال) * فقال: ما أشغل أهل النار عن هذا الترخيم! وأجيب عنه بأنه إنما حسن هذا الترخيم لأنه يدل على أنهم بلغوا في الضعف والنحافة إلى حيث لا يمكنهم أن يذكروا من الكلمة إلا بعضها. المسألة الخامسة: اختلفوا في أن قولهم * (يا مالك ليقض علينا ربك) * على أي وجه طلبوا فقال بعضهم على التمني، وقال آخرون على وجه الاستغاثة، وإلا فهم عالمون بأنه لا خلاص لهم عن ذلك العقاب، وقيل لا يبعد أن يقال إنهم لشدة ما هم فيه من العذاب نسوا تلك المسألة فذكروه على وجه الطلب.
ثم إنه تعالى بين أن مالكا يقول لهم * (إنكم ماكثون) * وليس في القرآن متى أجابهم، هل أجابهم في الحال أو بمدة طويلة، فلا يمتنع أن تؤخر الإجابة استخفافا بهم وزيادة في غمهم، فعن عبد الله بن عمر بعد أربعين سنة، وعن غيره بعد مائة سنة، وعن ابن عباس بعد ألف سنة والله أعلم بذلك المقدار.
ثم بين تعالى أن مالكا لما أجابهم بقوله * (إنكم ماكثون) * ذكر بعده ما هو كالعلة لذلك الجواب فقال: * (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون) * والمراد نفرتهم عن محمد وعن القرآن وشدة بغضهم لقبول الدين الحق، فإن قيل كيف قال: * (ونادوا يا مالك) * بعد ما وصفهم بالإبلاس؟ قلنا تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم ويستغيثون أوقاتا لشدة ما بهم، روي أنه يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم