والمعنى شرع الله لكم يا أصحاب محمد من الدين ما وصى به نوحا ومحمدا وإبراهيم وموسى وعيسى، هذا هو المقصود من لفظ الآية، وإنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة، إلا أنه بقي في لفظ الآية إشكالات أحدها: أنه قال في أول الآية * (ما وصى به نوحا) * وفي آخرها * (وما وصينا به إبراهيم) * وفي الوسط * (والذي أوحينا إليك) * فما الفائدة في هذا التفاوت؟ وثانيها: أنه ذكر نوحا عليه السلام على سبيل الغيبة فقال: * (ما وصى به نوحا) * والقسمين الباقيين على سبيل التكلم فقال: * (والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم) * وثالثها: أنه يصير تقدير الآية: شرع الله لكم من الدين الذي أوحينا إليك فقوله * (شرع لكم) * خطاب الغيبة وقوله * (والذي أوحينا إليك) * خطاب الحضور، فهذا يقتضي الجمع بين خطاب الغيبة وخطاب الحضور في الكلام الواحد بالاعتبار الواحد، وهو مشكل، فهذه المضايق يجب البحث عنها والقوم ما داروا حولها، وبالجملة فالمقصود من الآية أنه يقال شرع لكم من الدين دينا تطابقت الأنبياء على صحته، وأقول يجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئا مغايرا للتكاليف والأحكام، وذلك لأنها مختلفة متفاوتة قال تعالى: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * (المائدة: 48) فيجب أن يكون المراد منه الأمور التي لا تختلف باختلاف الشرائع، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان يوجب الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والسعي في مكارم الأخلاق والاحتراز عن رذائل الأحوال، ويجوز عندي أن يكون المراد من قوله * (ولا تتفرقوا) * أي لا تتفرقوا بالآلهة الكثيرة، كما قال يوسف عليه السلام: * (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) * (يوسف: 39) وقال تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) * (الأنبياء: 25) واحتج بعضهم بقوله * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) * على أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر كان مبعوثا بشريعة نوح عليه السلام، والجواب ما ذكرناه أنه عطف عليه سائر الأنبياء وذلك يدل على أن المراد هو الأخذ بالشريعة المتفق عليها بين الكل، ومحل * (أن أقيما الدين) * إما نصب بدل من مفعول * (شرع) * والمعطوفين عليه، وإما رفع على الاستئناف كأنه قيل ما ذاك المشروع؟ فقيل هو إقامة الدين * (كبر على المشركين) * عظم عليهم وشق عليهم * (ما تدعوهم إليه) * من إقامة دين الله تعالى على سبيل الاتفاق والإجماع، بدليل أن الكفار قالوا * (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) * (ص: 5) وههنا مسائل:
المسألة الأولى: احتج نفاة القياس بهذه الآية قالوا إنه تعالى أخبر أن أكابر الأنبياء أطبقوا على أنه يجب إقامة الدين بحث لا يفضي إلى الاختلاف والتنازع، والله تعالى ذكر في معرض المنة على عباده أنه أرشدهم إلى الدين الخالي عن التفرق والمخالفة ومعلوم أن فتح باب القياس يفضي إلى أعظم أنواع التفرق والمنازعة، فإن الحس شاهد بأن هؤلاء الذين بنوا دينهم على