عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن الدعوة إلى دين الله تعالى أعظم المناصب وأشرف المراتب، ثم بين أن الدعوة إلى دين الله تعالى، إنما تحصل بذكر دلائل التوحيد والعدل وصحة البعث والقيامة، عاد إلى تهديد من ينازع في تلك الآيات، ويحاول إلقاء الشبهات فيها، فقال: * (إن الذين يلحدون في آياتنا) * يقال ألحد الحافر ولحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق، فالملحد هو المنحرف، ثم بحكم العرف اختص بالمنحرف عن الحق إلى الباطل، وقوله * (لا يخفون علينا) * تهديد كما إذا قال الملك المهيب: إن الذين ينازعون في ملكي أعرفهم، فإنه يكون ذلك تهديدا، ثم قال: * (أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة) * وهذا استفهام بمعنى التقرير، والغرض التنبيه على أن الذين يلحدون في آياتنا يلقون في النار، والذين يؤمنون بآياتنا يأتون آمنين يوم القيامة.
ثم قال: * (اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير) * وهذا أيضا تهديد ثالث، ونظيره ما يقوله الملك المهيب عند الغضب الشديد إذا أخذ يعاتب بعض عبيده ثم يقول لهم اعملوا ما شئتم فإن هذا مما يدل على الوعيد الشديد.
ثم قال تعالى: * (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم) * وهذا أيضا تهديد، وفي جوابه وجهان: أحدهما: أنه محذوف كسائر الأجوبة المحذوفة في القرآن على تقدير: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم يجازون بكفرهم أو ما أشبه والثاني: أن جوابه قوله * (أولئك ينادون من مكان بعيد) * والأول أصوب، ولما بالغ في تهديد الذين يلحدون في آيات القرآن أتبعه ببيان تعظيم القرآن، فقال: * (وإنه لكتاب عزيز) * والعزيز له معنيان أحدهما: الغالب القاهر والثاني: الذي لا يوجد نظيره، أما كون القرآن عزيزا بمعنى كونه غالبا، فالأمر كذلك لأنه بقوة حجته غلب على كل ما سواه، وأما كونه عزيزا بمعنى عديم النظير، فالأمر كذلك لأن الأولين والآخرين عجزوا عن معارضته، ثم قال: * (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) * وفيه وجوه: الأول: لا تكذبه الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل والزبور، ولا يجيء كتاب من بعده يكذبه الثاني: ما حكم القرآن بكونه حقا لا يصير باطلا، وما حكم بكونه باطلا لا يصير حقا الثالث: معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه. والدليل عليه قوله * (وإنا له لحافظون) * (الحجر: 9) فعل هذا الباطل هو الزيادة والنقصان الرابع: يحتمل أن يكون المراد أنه لا يوجد في المستقبل كتاب يمكن جعله معارضا وله ولم يوجد فيما تقدم