أخرج كل أحد إلى آخر من جنسه، فقيض أحد الزوجين للآخر والغني للفقير والفقير للغني ثم بين تعالى أن بعضهم يزين المعاصي للبعض.
واعلم أن وجه استدلال أصحابنا ما ذكرناه، وهو أن من فعل فعلا وعلم قطعا أن ذلك الفعل يفضي إلى أثر، فاعل ذلك الفعل يكون مريدا لذلك الأثر، فههنا الله تعالى قيض أولئك القرناء لهم وعلم أنه متى قيض أولئك القرناء لهم فإنهم يقعون في ذلك الكفر والضلال، وما ذكره الجبائي لا يدفع ذلك، وقوله ولو أراد الله منهم المعاصي لكانوا بفعلها مطيعين لله، قلنا لو كان من فعل ما أراده غيره مطيعا له لوجب أن يكون الله مطيعا لعباده إذا فعل ما أرادوه معلوم أنه باطل، وأيضا فهذا إلزام لفظي لأنه يقال إن أردت بالطاعة أنه فعل ما أراد فهذا إلزام للشيء على نفسه، وأن أردت غيره فلا بد، من بيانه حتى ينظر فيه أنه هل يصح أم لا.
المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بقوله * (فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) * وذكر الزجاج فيه وجهين: الأول: زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث ولا جنة ولا نار وما خلفهم من أمر الدنيا، فزينوا أن الدنيا قديمة، وأنه لا فاعل ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك الثاني: زينوا لهم أعمالهم التي يعملونها ويشاهدونها وما خلفهم وما يزعمون أنهم يعلمونه، وعبر ابن زيد عنه، فقال زينوا لهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة وما بقي من أعمالهم الخسيسة.
ثم قال تعالى: * (وحق عليهم القوم في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين) * فقوله في أمم في محل النصب على الحال من الضمير في عليهم، والتقدير حق عليهم القول حال كونهم كائنين في جملة * (أمم) * من المتقدمين * (إنهم كانوا خاسرين) * واحتج أصحابنا أيضا بأنه تعالى أخبر بأن هؤلاء * (حق عليهم القول) * فلو لم يكونوا كفارا لانقلب هذا القول الحق باطلا وهذا العلم جهلا، وهذا الخبر الصدق كذبا، وكل ذلك محال ومستلزم المحال محال، فثبت أن صدور الإيمان عنهم، وعدم صدور الكفر عنهم محال. واعلم أن الكلام في أول السورة ابتدئ من قوله * (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) * إلى قوله * (فالعمل إننا عاملون) * (فصلت: 5) فأجاب الله تعالى عن تلك الشبهة بوجوه من الأجوبة، واتصل الكلام بعضه بالبعض إلى هذا الموضع، ثم إنه حكى عنهم شبهة أخرى فقال: * (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) *، قال صاحب " الكشاف " قرىء * (والغوا فيه) * بفتح الغين وضمها يقال لغى يلغي ويلغو واللغو الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته.
واعلم أن القوم علموا أن القرآن كلام كامل في المعنى، وفي اللفظ وأن كل من سمعه وقف على جزالة ألفاظه، وأط عقله بمعانيه، وقضى عقله بأنه كلام حق واجد القبول، فدبروا تدبيرا في منع الناس عن استماعه، فقال بعضهم لبعض * (لا تسمعوا لهذا القرآن) * إذا قرىء وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات والأشعار الفاسدة والكلمات الباطلة، حتى تخلطوا على القارئ