السيف الصقيل رد ابن زفيل - السبكي - الصفحة ١٤٨

يتقاعس الصحابة عن الإجابة عند حدوث ضرورة كما فعل ابن عباس رضي الله عنهما مع نافع بن الأزرق فلا يكون المؤول بشرطه مخالفا للصحابة رض الله عنهم بل مقتديا بهم، وقد سرد المحدث النظار الفخر بن المعلم القرشي الشافعي في (نجم المهتدي) في باب خاص منه نماذج كثيرة من التأويلات المروية عن الصحابة والتابعين وقد اكتظت كتب التفسير بالرواية بما روى عنهم في هذا الصدد. وكانت الصحابة يفهمون بسليقتهم كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يكن يصعب عليهم فهم ما يستعصى فهمه على كثير ممن تأخر زمنه عن زمن الوحي، ولم يقع في كلام أحد منهم شئ ينافي التنزيه أصلا وأما ما وقع في بعض الروايات مما يوهم ذلك فمن تغيير أعراب الرواة وأعاجمهم والرواية بالمعنى من غير فقهاء الرواة في حاجة إلى التنقيب والنظر وحيث كان غالب ألفاظ الروايات ألفاظ الرواة - على حسب فهمهم المعاني - لا يعول محققو علماء العربية في اللغة على ألفاظ الحديث المروى بالمعنى فكيف يتصور أن يتخذ علماء أصول الدين ألفاظ هؤلاء الرواة - على حسب أفهامهم - حجة في دين الله من غير نظر فيما إذا كان مخالفا للتنزيه والبراهين القائمة؟. والحاصل أن التفويض مع التنزيه مذهب جمهور السلف لانتفاء الضرورة في عهدهم والتأويل مع التنزيه مذهب جمهور الخلف حيث عن لهم ضرورة التأويل لكثرة السماعين في الإضلال في زمنهم. وليس بين الفريقين خلاف حقيقي لأن كليهما منزه ومن أهل العلم من توسط بين هؤلاء وهؤلاء كما أشرت إليه.
وأما المشبهة فتراهم يقولون: نحن لا نؤول بل نحمل آيات الصفات وأخبارها على ظاهرها. وهم في قولهم هذا غير منتبهين إلى أن استعمال اللفظ في الله سبحانه بالمعنى المراد عند استعماله في الخلق تشبيه صريح وحمله على معنى سواه تأويل على أن الأخبار المحتج بها في الصفات إنما هي الصحاح المشاهير دون الوحدان والمفاريد والمناكير والمنقطعات والضعاف والموضوعات مع أنهم يسوقون جميعها في مساق واحد في كتب يسمونها التوحيد أو الصفات أو السنة أو العلو أو نحوها.
اضطراب الحشوية ومن الأدلة القاطعة على رد مزاعم الحشوية في دعوى التمسك بالظاهر في اعتقاد الجلوس على العرش خاصة قوله تعالى " وإذا سالك عبادي عني فإني قريب " (البقرة: 186) وقوله تعالى " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " (ق: 16) وقوله تعالى " واسجد واقترب " (العلق: 19) وقوله تعالى " ألا إنه بكل شئ محيط " (فصلت: 54) وقوله تعالى " وهو معكم أينما كنتم " (الحديد: 4) إلى غير ذلك مما لا يحصى في الكتاب والسنة المشهورة مما ينافي الجلوس على العرش وأهل السنة يرونها أدلة على تنزه الله سبحانه عن المكان كما هو الحق فلا يبقى للحشوية أن يعملوا شيئا إزاء أمثال تلك النصوص غير محاولة تأويلها مجازفة أو العدول عن القول بالاستقرار المكاني فأين التمسك بالظاهر في هاتين الحالتين؟. وهكذا سائر مزاعمهم على أن من عرف أقسام النظم باعتبار الوضوح والخفاء وأقر بكون آيات الصفات وأخبارها من المتشابه كيف يتصور في هذا المقام ظاهرا يحمل المتشابه عليه؟. وإنما حقه أن يحمل المتشابه في الصفات على محكم قوله تعالى " ليس كمثله شئ " (الشورى: 11) بالتأويل الإجمالي ومن الحشوية من يزعم أن الآية المذكورة متشابهة ليتنكب الحمل المذكور، بل منهم من بلغ به الكفر إلى حد أن يقول (له ساق كساقي هذه والمراد بالآية نفي المماثلة في الإلهية لا في كل أمر) كما تجد ذلك في ترجمة العبدري الظاهري في تاريخ ابن عساكر. وهذا كفر بواح، فتلاوة المشبه الآية المذكورة لا تفيد بمجردها التنزيه بالمعنى الذي يفهمه أهل الحق من الآية فلا تغفل ولا تنخدع فمن المضحك المبكي تمسكهم مرة في نفي العلم بالتأويل بقوله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله " (آل عمران : 7) باعتبار الوقف على الاسم الكريم مع دعوى الحمل على الظاهر، وزعمهم أخرى أن التأويل بمعنى التفسير مع الوقف على " والراسخون في العلم " (آل عمران: 7) مدعين أنهم يعلمون تأويل المتشابه باعتبار أنهم من الراسخين في العلم ومجترئين على النطق بكلمات في المتشابهات لا ينطق بمثلها من يخاف مقام ربه، وأما أهل الحق فلا يدعون معرفة جميع التأويل بل يفوضون علمه إلى الله ويردون المتشابه إلى المحكم جملة وتفصيلا ولا يحملون لفظ التأويل في تلك الآية على خلاف معناه المعلوم من السياق بل يحمل بعض المحققين منهم النفي في الآية - بالوقف على لفظة " الله " كما هو المؤيد دراية ورواية - على سلب العموم دون عموم السلب بالنظر إلى أن التأويل مصدر مضاف فيكون من ألفاظ العموم فبانصباب النفي على العموم يكون المعنى: ما يعلم غيره تعالى بنفسه جميع التأويل وهذا لا يمانع معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم جميع التأويل بتعليم الله سبحانه وحيا ولا يمنع أهل العلم من الأمة من السعي في معرفة ما دون الجميع من التأويل كما هو حكم رفع الإيجاب الكلي، ومنهج كثير من السلف الذين اختاروا الوقف على لفظة " الله " فضلا عن الخلف وبهذا تعرف قيمة ما أطال به ابن تيمية الكلام في تفسير سورة الإخلاص متظاهرا بالمسايرة مع الخلف مخادعة منه في صدد توهين الوقف على لفظة " الله " مع إخراج التأويل عن معناه ليتمكن من حمل المتشابهات على معتقد الحشوية، فإذا تدبرت كلامه الطويل هناك تحت نور هذا البيان تجده يضمحل ويذهب هباء ومن الطريف تأويل التأويل ممن ينكر التأويل ويدعي الأخذ بالظاهر.
ثم إني أوص الشحيح بدينه أن لا يلتفت إلى كلام مثل البرهان الكوراني (وله أمثال) ممن ضاع صوابه بين نزعات متضاربة من حشوية وتصوف وفلسفة وكلام حيث أطلق عنان الهذيان في التلفيق بينها من غير أن يستبحر في علم منها والكلام بعد الاستطراف المجرد مرقع في التخريف ومصداق ذلك في (الأمم لإيقاظ الهمم) له في (ص 23 - 26) منه فما يرويه فيه عن كتب تنهب إلى الأشعري على خلاف ما هو مدون في كتب الصحابة وأصحاب أصحابه ليس بموضع تعويل لمنافاته لنقل الكافة ولإبادة الحشوية لكتبه في فتن بغداد ولتصرفهم في البقية الباقية التي يذيعونها بما يخالف نقل الكافة ولعدم روايتها سماعا بطريق أهل السنة، كما بينت ذلك في موضع آخر. وأما ما يرويه عن عبد الغني القدسي بسنده عن الشافعي من الاعتقاد فباطل موضوع وفي سنده العشاري وأبو العز بن كادش وسيأتي حالهما في أواخر الكتاب وعبد الغني نفسه ليس ممن يقبل قوله في الصفات، راجع ذيل الروضتين. فلا يعول على مثل هذا السند إلا مثل الكوراني.
التجلي في الصور وقول الكوراني بالتجلي في الصور مجون في مجون وجنون ليس فوقه جنون، وقال أبو بكر ابن العربي في القواصم والعواصم (2 - - 28) فيمن يحمل حديث (... فيأتيهم في صورة ثم يأتيهم في صورة أخرى...) على التبدل والانتقال والتحول: إنه ليس من أهل القبلة بل حكم بخروجه أصلا وفرعا من الملة. وحمل الصورة على ظاهرها فضيحة ليس فوقها فضيحة والله هو الهادي.
(١٤٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 144 145 146 147 148 148 149 156 157 158 159 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 التعريف بموضوع الكتاب 3
2 مقدمة المعلق 3
3 انقشاع ظلمات الجاهلية بمبعثه صلى الله عليه وسلم 3
4 تحين الأعداء الفرص للكيد بالمسلمين 3
5 انخداع سذج الرواة 5
6 فضل علماء أصول الدين في حراسة الدين 5
7 محاولة ابن تيمية بعث الحشوية من مرقدها 6
8 مسايرة ابن القيم لابن تيمية في فتنته 7
9 نماذج من أقوال أصحاب ابن القيم وأضداده والمتحايدين 8
10 أخطر ما يطغى من صنوف الاستغناء 10
11 ردود السبكي على ابن تيمية والكلام في رده على نونية ابن القيم 11
12 مقدمة الكتاب للمؤلف 13
13 الأشعرية اعدل الفرق 15
14 مجامع الزيغ في نونية ابن القيم 20
15 تأسى السبكي بإمام الحرمين في الرد على بعض جهلة أهل الحديث 21
16 مناظرة خيالية بين المشبه والمنزه 23
17 فصل: أمثال مضروبة للمعطل والمشبه والموحد 26
18 فصل: في قصيدته النونية 26
19 فصل: تخيل الناظم في أفعال العباد 27
20 فصل: استنكار الناظم إعادة المعدوم 31
21 فصل: زعم الناظم قيام الله تعالى بالحوادث 32
22 فصل: عقد مجلس خيالي.. كلامه في وحدة الوجود 36
23 فصل: الفوقية الحسية 42
24 تسمية الناظم أهل الحق بحزب جنكيزخان 43
25 فتاوى في الرد على القائلين بالحرف والصوت 46
26 رد حديث الأوعال 53
27 الأصابع في كلام الجبر 57
28 الكلام على الساق والنزول والمجيء ووضع القدم 59
29 تصوير الناظم أهل الحق أسوأ تصوير 62
30 كذب الناظم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم 63
31 فصل: قال: في قدوم ركب الإيمان وعسكر القرآن 65
32 عدم تمييز الناظم بين اللازم والملزوم 68
33 تخبط الناظم في الصوت 68
34 كلام واف في أحاديث الصوت 71
35 فصل: قوله: إنه يلزم من نفى صفة الكلام نفى الرسالة 73
36 فصل: وقيعة الناظم وشيخه في ابن حزم 75
37 الخلاف بين احمد والبخاري رضى الله عنهما في الفظ 77
38 فصل: في مقالة الفلاسفة والقرامطة 78
39 فصل: في الاتحادية 78
40 الرد على عثمان بن سعيد في إثباته الحركة 81
41 الرد على قول الناظم بالإيجاب 82
42 فصل: في تجويز التسلسل في الماضي 83
43 الرد على كلام الناظم في الزمان 84
44 فصل: في الرد على الجهمية 86
45 فصل: نصوص ابن تيمية في الفوقية الحسية 90
46 قول أبى حيان في ابن تيمية 94
47 صيغة استتابة ابن تيمية في الاستواء والصوت وخطوط كبار العلاء 94
48 فصل: كلمة ابن تيمية في العلو والفوقية والرد عليه 100
49 فصل: حديث النزول 102
50 فصل: الإشارة إلى رفع الأيدي إلى السماء 104
51 فصل: دعوى الناظم في الرؤية بدون مقابلة 105
52 فصل: بسط الكلام في السؤال ب‍ " أين " في حديث الجارية 106
53 توهين سند حديث أبى رزين 109
54 تفنيد زعم الإجماع على الفوقية الحسية 113
55 بسط الكلام في رد القول بالجهة 114
56 تناقض ابن تيمية في الجهة وكذبه 117
57 مخالفات ابن تيمية 120
58 رد المصنف على الناظم في الفوقية 128
59 روايات الضراب عن مالك في النزول 128
60 قول اليافعي في الحشوية 130
61 أحد المراسيم الصادرة في حق ابن تيمية 132
62 نص الإمام أحمد في المجئ 137
63 معنى كتب ربكم على نفسه بيده 139
64 سخف عثمان بن سعيد في التمسك بحديث حصين في الفوقية 141
65 الشعر المنسوب إلى ابن رواحة رضى الله عنه 143
66 حديث بنى قريظة 144
67 حدث جابر رضى الله عنه 145
68 فصل: ممتع في التأول 148
69 قول ابن حجر في التأويل 150
70 تحقيق ابن دقيق العيد 151
71 صنيع الصحابة في التأويل 152
72 اضطراب الحشوية 153
73 القول بالتجلي في الصور 156
74 تبديع الفلاسفة وإكفارهم 157
75 القول بتجرد الروح 159
76 نص من ابن تيمية في الحد والجسم 160
77 قول السلف في العين واليد 167
78 خداع الناظم وشيخه 167
79 معنى القبضة عند الخلف 168
80 المعطل في الأصل من ينفى الصانع 169
81 فصل: في عهود المثبتين مع الله رب العالمين 175
82 فصل: افتراؤهم المثلث على الأشعرية 175
83 فصل: في حياة الأنبياء 177
84 فتيا الأئمة في إنكاره شد الرحل لزيارته صلى الله عليه وسلم 177
85 نص ابن عقيل الحنبلي في تذكرته 180
86 نصوص من المطالب العالية للفخر الرازي 183
87 فصل: في الهدنة بين المعطلة والاتحادية حزب جنكسخان 189
88 فصل: في مصارع المعطلة باسنة الموحدين 189
89 كلمة صاحب الدرة المضيئة في ابن تيمية 190
90 فصل: في كسر الطاغوت الذي نوا به الصفات 192
91 فصل: في مبدأ العداوة بين الموحدين والمعطلين 193
92 فصل: في أن التعطيل أساس الزندقة 193
93 فصل: في بهت أهل الشرك والتعطيل 194
94 عظم شأن الفخر الرازي في الرد على الحشوية 195
95 ناحت العجل 196
96 الكلام النفسي 197
97 قول ابن القيم في تلازم التعطيل والشرك 199
98 فصل: في مثل المشرك والمعطل 200
99 حال الذهبي ماله وما عليه 202
100 فصل: في أسبق الناس دخولا إلى الجنة 208
101 فصل: في عدد الجنات 209
102 فصل: في يوم المزيد 210
103 خاتمة السيف الصقيل 211
104 مقدمة رسالة الذهبي إلى ابن تيمية 212
105 نص الرسالة بخط ابن قاضي شهبة (بالزنكوغراف) 214
106 نص الرسالة بالحروف العادية 217
107 لماذا يقال للناظم ابن القيم 219
108 خاتمة تكملة الرد 219