أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) [العنكبوت: 46] وقال تعالى: (وجادلهم بالتي هي أحسن) [النحل: 125] وقال تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا) [غافر:
4] فإن كان الجدال للوقوف على الحق وتقريره كان محمودا، وإن كان في مدافعة الحق، أو كان جدالا بغير علم كان مذموما، وعلى هذا التفصيل تنزيل النصوص الواردة في إباحته وذمه، والمجادلة والجدال بمعنى، وقد أوضحت ذلك مبسوطا في " تهذيب الأسماء واللغات ".
قال بعضهم: ما رأيت شيئا أذهب للدين، ولا أقص للمروءة، ولا أضيع للذة، ولا أشغل للقلب من الخصومة.
فإن قلت: لا بد للانسان من الخصومة لاستبقاء حقوقه.
فالجواب ما أجاب به الإمام الغزالي: أن الذم المتأكد إنما هو لمن خاصم بالباطل أو بغير علم، كوكيل القاضي، فإنه يتوكل في الخصومة قبل أن يعرف أن الحق في أي جانب هو فيخاصم بغير علم.
ويدخل في الذم أيضا من يطلب حقه، لكنه لا يقتصر على قدر الحاجة، بل يظهر اللدد والكذب للايذاء والتسليط على خصمه، وكذلك من خلط بالخصومة كلمات تؤذي، وليس له إليها حاجة في تحصيل حقه، وكذلك من يحمله على الخصومة محض العناد لقهر الخصم وكسره، فهذا هو المذموم، وأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء، ففعله هذا ليس حراما، ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلا، لان ضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال متعذر، والخصومة توغر الصدور، وتهيج الغضب، وإذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما، حتى يفرح كل واحد بمساءة الآخر، ويحزن بمسرته، ويطلق اللسان في عرضه، فمن خاصم فقد تعرض لهذه الآفات، وأقل ما فيه اشتغال القلب حتى إنه يكون في صلاته وخاطره معلق بالمحاجة والخصومة فلا يبقى حاله على الاستقامة. والخصومة مبدأ الشر، وكذا الجدال والمراء، فينبغي أن لا يفتح عليه باب الخصومة إلا لضرورة لا بد منها، وعند ذلك يحفظ لسانه وقلبه عن آفات الخصومة.
1119 - روينا في كتاب الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " كفى بك إثما أن لا تزال مخاصما " (1).