الزيغ والالحاد، مثلهم في الأرض كمثل النجوم التي في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ويكفي في تعظيم شأنهم والتنويه بمكانتهم ومقامهم ما ورد في حقهم من محكم آيات الكتاب الحكيم ومستفيض السنة الكريمة ومأثور المروي عن حجج الله المكرمين سلام الله عليهم أجمعين، ومرتبة العلم هي المرتبة الثانية من مراتب الكمال البشري التالية لمرتبة النبوة التي هي اختصاص إلهي واصطفاء رباني يخص بها من يشاء من عباده المكرمين بعد أن يهيئ نفسه بالتأديب الإلهي لنيل ذلك المقام الرفيع، فيجعله مهبط وحيه ومبلغ رسالاته ويجعله أسوة لخلقه في الهداية إلى الصراط المستقيم، وللعلماء العاملين الذين جمعوا بين الفضيلتين واحتووا على درك تلك السعادتين - وقليل ما هم - مزية عظيمة وميزة ظاهرة على من سواهم بما بذلوا أنفسهم في سبيل الله وجاهدوا في مرضاته حق جهاده، فهم حفظة أحكام الدين ونواميسه وحراس ثغور الشرع وحدوده وألسنه الناطقة وسيوفه القاطعة، ينفون من الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
ومن هؤلاء الأفذاذ الذين ازدهرت بهم علوم الشيعة الإمامية وتزينت بوجودهم سماء معارفها السامية حوالي منتصف القرن الرابع الهجري وأوائل القرن الذي بعده، هو الشيخ الجليل الأعظم والرئيس المقدم الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان البغدادي العكبري المشتهر بالمفيد قدس الله روحه الشريفة، فقد كانت حياته حياة علم وعمل وجد وجهد واستفادة وإفادة حتى اجتمعت فيه خلال الفضل والكمال، تلمذ على العشرات من رجال العلم وحملة الآثار في عصره حتى صار أوثق أهل زمانه بالحديث وأعرفهم بالفقه والكلام والخبرة بالرجال والأخبار والسير وأشعار العرب وغير ذلك، وكان من الناحية العملية كثير الصلاة والصوم، كثير الصدقات، عظيم الخشوع، وكانت حياته العلمية مستغرقة في أغلب الأحيان في ترويج المذهب والدفاع والجدال