على أن اضطهاد المسيحيين لم يكن موجها ضد الوثنيين فحسب، بل اتجه كذلك ضد المسيحيين أيضا، فإن المسيحية التي ظهرت وأصبحت ذات سلطان لم تكن مسيحية عيسى، بل مسيحية بولس ومسيحية الفلسفة الإغريقية، ولكنها كانت ولا تزال تسمى المسيحية على كل حال، ولما كانت هذه المسيحية قد ابتدعت أشياء لا يرضى بها المسيحيون الأصليون كألوهية المسيح والتثليث وغيرهما، فقد بدأ صراع جديد اعتبر فيه المسيحيون الأصليون متمردين، وأوقعت بهم المسيحية الإغريقية أو مسيحية بولس ألوانا من العنت والاضطهاد، واستمرت الكنيسة في خلق البدع وفي ابتكار الخرافات كالعشاء الرباني وغفران الذنوب، ووجد من المسيحيين من يعارض هذه الخرافات، فكان نصيبه أن لاقى القسوة والوحشية، وسنلم هنا بصور قليلة من هذا العنت الذي أنزله المسيحيون بالمسيحيين:
في القرن الرابع عارض أريوس (336 م) القول بألوهية المسيح كما سيأتي، مما دعا إلى عقد مجمع نيقية، وسيأتي الحديث عنه، وقد قرر هذا المجمع إدانة أريوس، وإحراق كتاباته، وتحريم اقتنائها، وخلع أنصاره من وظائفهم، ونفيهم، والحكم بإعدام كل من أخفى شيئا من كتابات أريوس وأتباعه (1). وفي عهد تيودوسيوس (395) ظهرت لأول مرة (محكمة التفتيش) وتم تنظيمها فيما بعد في القرن الثاني عشر، وكان أعضاؤها من الرهبان، وكانت وظيفتهم اكتشاف المخالفين في العقيدة، ولهم سلطان كبير ولا يسألون عما يفعلون، وتاريخ محكمة التفتيش هو تاريخ الاضطهاد الديني في أقسى صوره، وقتل حرية الفكر بأبشع أداة، ومن أقذر سبلها أنها حتمت أن ينهى كل إنسان في غير تباطؤ ما يصل إلى سمعه بشأن الملحدين، وهددت من يتوالى بعقوبات صارمة في الدنيا والآخرة، فانتشر بسببها نظام التجسس حتى بين أفراد الأسرة الواحدة (2).