والتأمل العميق في جميع الأديان والنحل يعطي أنها مشتملة نوع اشتمال على هذا الروح الحي حتى الوثنية والثنوية، وإنما وقع الاختلاف في تطبيق السنة الدينية على هذا الأصل والإصابة والخطأ فيه، فمن قائل مثلا أنه أقرب إلينا من حبل الوريد وهو معنا أينما كنا ليس لنا من دونه من ولي ولا شفيع، فمن الواجب عبادته وحده من غير إشراك، ومن قائل أن تسفل الإنسان الأرضي وخسة جوهره ولولا يدع له مخلصا إلى الاتصال بذاك الجناب، وأين التراب ورب الأرباب فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض عباده المكرمين المتجردين عن جلباب المادة، الطاهرين المطهرين من ألواث الطبيعة، وهم روحانيات الكواكب، أو أرباب الأنواع، أو المقربون من الإنسان، وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. وإذ كانوا غائبين عن حواسنا متعالين عن جهاتنا كان من الواجب أن نجسدهم بالأنصاب والأصنام حتى يتم بذلك أمر التقرب العبادي. وعلي هذا القياس في سائر الأديان والملل، فلا نجد في متونها إلا ما هو بحسب الحقيقة نحو توجيه لتوحيد الإله عز اسمه.
ومن المعلوم أن السنن الدائرة بين الناس وإن انشعبت أي انشعاب واختلفت أي اختلاف شديد، فإنها تميل إلى التوحد إذا رجعنا إلى سابق عهودها القهقرى، وتنتهي بالآخرة إلى دين الفطرة الساذجة الإنسانية وهو التوحيد.
فدين التوحيد أبو الأديان وهي أبناء له صالحة أو طالحة.
ثم إن الدين الفطري إنما يعتبر أمر عرفان النفس ليتوصل به إلى السعادة الإنسانية التي يدعو إليها، وهي معرفة الإله التي هي المطلوب الأخير عنده. وبعبارة أخرى:
الدين إنما يدعو إلى عرفان النفس دعوة طريقية ولولا غائية، فإن الذوق الديني لا يرتضي الاشتغال بأمر إلا في سبيل العبودية، وإن الدين عند الله الإسلام ولا يرضى لعباده الكفر، فكيف يرضى بعرفان النفس إذا استقل بالمطلوبية.
ومن هنا يظهر أن العرفان ينتهي إلى أصل الدين الفطري إذ ليس هو بنفسه أمرا مستقلا تدعو إليه الفطرة الإنسانية، حتى تنتهي فروعه وأغصانه إلى أصل واحد هو العرفان الفطري.