شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٠ - الصفحة ٥٢١
عطاء كبيرهم تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذ علي رضي الله عنه. وأما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن أبي الحسن علي بن أبي بشر الأشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبو علي الجبائي أحد مشايخ المعتزلة الذين علمهم واصل بن عطاء.. أما الفقه فإمامه الأكبر أبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد، وجعفر بن محمد قرأ على أبيه، وهكذا ينتهي الأمر إلى علي رضي الله عنه، وقد قرأ مالك بن أنس على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس، وقرأ عبد الله بن عباس على علي رضي الله عنه.
وقيل لابن عباس: أين علمك من علم ابن عمك؟.. فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط.
قال ابن أبي الحديد: ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الاسلام إليه ينتهون وعنده يقفون. وقد صرح بذلك الشبلي والجنيد وسري وأبو يزيد البسطامي وأبو محفوظ معروف الكرخي وغيرهم. ويكفيك دلالة على ذلك: الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه عليه السلام..
وقد جمع نهج البلاغة نماذج شتى من الكلمات التي تنسب إليه ويصح أن تحسب أصلا " للعلم الإلهي " أو لأسرار التصوف في صدر الاسلام قبل اشتغال المسلمين بفلسفة اليونان وحكمة الأمم الأجنبية. وربما وقع الشك في نسبة بعض الكلمات إلى علي رضي الله عنه لأنها تجمعت بعد عصره بزمن طويل وامتزج بها ما لا بد أن يمازجها من علوم القرن الثالث وما بعده.. ولكن شيئا على هذا النهج لا بد أن يكون قد صدر منه حقا حتى جاز أن يتصل النسب بينه وبين أئمة التوحيد وعلم الكلام على النحو الذي تواترت به الأقوال، وأجمله ابن أبي الحديد فيما تقدم..
ولنا أن نقول: إنه كان رضي الله عنه يتتلمذ للقرآن الكريم ويستوحيه نصا في عرفان إسلامه وتقرير إيمانه، فكانت نظرته إلى الخلق والخالق نظرة قرآنية يبتكر ما شاء ابتكار التلميذ في الحكاية عن الأستاذ، فكلامه عن الطاووس والخفاش والزرع والسحاب إنما هو الدرس القرآني الذي وعاه من أمر الكتاب بالنظر في المخلوقات، ووصف الكتاب لطوائف منها كالنمل والنحل والطير والأجنة في الأرحام. فهو تلميذ ربه جل وعلا في قوله عن الخفاش: من لطائف صنعته وعجائب حكمته ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شئ ويبسطها الظلام القابض لكل حي، وكيف غشيت أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نورا تهتدي به في مذاهبها.. فسبحان من جعل الليل لها نهارا ومعاشا، والنهار لها سكنا وقرارا، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران كأنها شظايا الآذان، غير ذوات ريش ولا قصب.. تطير وولدها لاصق بها لاجئ إليها، يقع إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه، فسبحان الباري لكل شئ على غير مثال خلاف غيره.
ومثله قوله عن الطاووس: ومن أعجبها خلقا الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل ونضد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه وذنب أطال سحبه، إذا درج إلى الأنثى نشره من طيه، وسما به مظلا على رأسه.. وقد ينحسر من ريشه ويعرى من لباسه فيسقط تترى وينبت تباعا، فينحت من قصبة نحتات أوراق الأغصان، ثم يتلاصق ثانيا حتى يعود كهيئته قبل سقوطه لا يخالف سالف ألوانه ولا يقع لون في غير مكانه..
ونحن لا نستغرب ابتداء هذا النمط من النظر الفلسفي على نحو من الأنحاء في عصر الإمام علي رضي الله عنه، لأنه كان عهدا نبتت فيه أصول الفرق الاسلامية جميعا من الخوارج والشيعة، والقائلين بالرجعة وتناسخ الأرواح، والمجتهدين في قراءة القرآن وتفسيره على شتى المذاهب.. فاقرب شئ إلى المعقول أن يكون إمام العصر كله قدوة في الاجتهاد والنظر وعنوانا للنوازع التي تفرقت بين أهل زمانه، وتعبيرا صادقا لتفكيره ووعيه، وصاحب أقوال من قبيل هذه الأقوال التي قدمناها وإن لم تكن هي إياها بالنص والتفصيل..
ويستقيم مع هذا التقدير أن يكون الإمام على سجيته مؤثرا للاجتهاد ما استطاعه، معرضا عن التقليد ما استغنى عنه، فوافق الخلفاء من قبله في أمور وخالفهم في أمور، وأبى أن يأتم بعملهم فيما يراه وما لا يراه، وأوصى ابنه الحسن وقد بلغ الستين فقال:
.. اعلم يا نبي أن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك، فإنهم لم يدعوا أن نظروا إلى أنفسهم كما أنت ناظر وفكروا كما أنت مفكر..
فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم لا بتورط الشبهات، وعلق الخصومات، وابتدئ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك، والرغبة إليه في توفيقك، وترك كل شائبة أولجتك في شهبة أو أسلمتك إلى ضلالة، فإن أيقنت أن قد صفا قلبك، وتم رأيك فاجتمع، وكان همك في ذلك هما واحدا، فانظر فيما فسرت لك..
وربما كانت هذه الوصية وحدها كافية للتعريف بإسلام علي كما ارتضاه لنفسه وارتضاه للقادرين عليه من أتباعه.. فإنما هو إسلام المسلم " المطبوع " الذي يبتكر دينه لأنه يعتمد فيه على وحي بصيرته وارتجال مزاجه، وإنما هو إسلام الحكيم المجتهد الذي يرجع في الحكمة والاجتهاد إلى رياضة النفس على سنة النساك وتمحيص الفكر على سنة العلماء، وإنما هو إسلام الرجل الذي أتيح له أن يتتلمذ لربه، ويتربى في حجر نبيه، ويصبح إماما للمقتدين من بعده..