وبالجملة: بقلة الأكل وكثرة الجوع يصفو العقل ويجلو الفكر، وهما يوجبان حصول المعارف الربانية، وهي أشرف أحوال النفس الانسانية، ولذا قال الحكيم أفلاطون الإلهي: الجوع سحاب يمطر العلم والحكمة، والشبع سحاب يمطر الجهل والغفلة.
وقال سيدنا أمير المؤمنين (عليه السلام) على ما نقل عنه:
العلم في ذل وجوع ومحنة * وبعد من الآباء والأهل والوطن ولو كان كسب العلم أسهل حرفة * لما كان ذو جهل على الأرض في الزمن (1) ورد: " أن الجوع أدام للمؤمن، وغذاء للروح، وطعام للقلب، وصحة للبدن " (2).
وقال الصادق (عليه السلام): " إن البطن ليطغى من الملة، وأقرب ما يكون العبد من الله تعالى إذا خف بطنه، وأبغض ما يكون العبد من الله تعالى إذا امتلأ بطنه " (3).
وربما كان الإفراط في التملي حراما إذا أدى إلى الضرر، فإن الأكل على الشبع يورث البرص، وامتلاء المعدة رأس الداء.
فإن قلت: قد ورد في بعض الأخبار الاستعاذة من الجوع، حيث قال: " وأعوذ بالله من الجوع فإنه بأس الضجيع " ولا يستعاذ إلا مما هو شر. وأيضا فإن الجوع هو الألم الذي ينال الانسان من خلو المعدة عن الغذاء، وهو ضرر فيجب رفعه ودفعه، فكيف يكون محمودا؟
قلت: المراد بالجوع في هذا الحديث وأمثاله هو الذي يشغل عن ذكر الله ويثبط عن الطاعة لمكان الضعف، وأما الجوع الذي لا يصل إلى هذه الحالة فهو محمود، بل هو سيد الأعمال كما جاءت به الرواية وفي خبر آخر عنه (عليه السلام): " كفى ابن آدم ثلاث لقيمات يقمن صلبه " (4).