من معراج كل ذي معراج، كيف لا وقد بلغ في معراجه إلى حيثما أخبر عنه سبحانه بقوله: * (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) * (1) أي: قرب فاشتد قربه فكان البعد بينهما قدر قوسين بل أدنى. والمقصود تمثيل ملكة الاتصال، وتحقيق استماعه لما أوحى إليه بنفي البعد الملبس، فيكون دنوه كناية عن رفع مكانته، وتدليه عن جذبه بشراشره إلى جناب القدس، وما حصل ليونس بن متى ولا لغيره من الأنبياء عشر أعاشير ما حصل له (صلى الله عليه وآله).
فالحق أن يجعل " إلا " فيه عاطفة بمثابة الواو العاطفة كما ذهب إليه جمع من الأدباء كالأخفش والفراء وأبو عبيدة والشارح الفاضل الرضي وابن هشام في المغني (2) وجعلوا منه قوله تعالى: * (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم) * (3) وقوله: * (لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء) * (4) أي: ولا الذين ظلموا ولا من ظلم، فيكون من باب ذكر الخاص بعد العام، تنبيها على زيادة الاهتمام، ودفعا لما عسى أن يتوهم أن له (صلى الله عليه وآله) فضل وزيادة على جميع الأنبياء من جميع الجهات إلا على يونس فإنهما سيان في كونهما ذوي معراج، فدفعه بأن قال (صلى الله عليه وآله): فضلوني على الأنبياء وعلى يونس بن متى أيضا، فإن معراجي إلى السماء ومعراجه إلى الماء، وبون بعيد بينهما، فهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، وليس الغرض خصوص العروج إلى السماء أو النزول إلى الماء، بل المراد هو الإيماء إلى تفاوت ما بين المعراجين في حصول القدر والرتبة.
وبهذا التقرير يمكن استفادة وجه آخر على تقدير إبقاء " إلا " على الاستثناء، وهو أن يكون الغرض أن له (صلى الله عليه وآله) فضلا على جميع الأنبياء ومنهم يونس بن متى إلا في خصوص كونهما ذوي معراج من غير ملاحظة تفضيل أحد المعراجين على الآخر، والوجه ما ذكرناه أولا، فتأمل.