وقذفه بنفسه في معامع الوقائع غير هياب ولا وجل، وكيف كان يعرض نفسه للأخطار في كثير من المواقع التي قاتل فيها، وكيف كان يحمل اللواء ويقاتل بنفسه، وكيف سبق خالد بن الوليد إلى أخذ الراية في موقعة اليرموك. تلك الموقعة التي جنى المسلمون ثمار الانتصار فيها، لاتباعهم مشورته والعمل برأيه باجتماع وحدات المسلمين في مكان واحد، ليكونوا قوة واحدة يدفعون بها العدو وينتصرون عليه، وقد كان من وراء رأيه السديد انتصار العرب في هذه الموقعة وفي غيرها من المواقع حتى كان النصر.
أما حبه للجهاد فقد كان يفوق الوصف - ذلك الحب الذي استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيما، حتى كان يتسابق إليه غير مبال بجموع أعدائه مهما كثرت، وقوة جنده مهما قلت، وأن محاولته فتح مصر بأربعة آلاف مقاتل أو أقل لأقوى دليل وأسطع برهان على صحة ما نقول.
وكان عمرو من دهاة العرب المشهورين، وقد قرأت صحف دهائه عند النجاشي حين أوقع بعمارة بن الوليد، وانظر كيف أوقع التفريق في صفوف علي في موقعه صفين، وقد أشرف جيش علي على الانتصار، وكيف تغلب بما أوتيه من ضروب الحيل وفنون الدهاء على أبي موسى عند عقد التحكم وغير ذلك من أخباره في الدهاء التي يقف أمامها المرء حائرا. لهذا العقل البشري والذكاء الإنساني الذي ذلل أمثال تلك الصعوبات، وفك أعقد العقد حتى هدت حيله عزائم الجحافل فتبددت آمال الرجال وأقطاب السياسة. ومما يدل على دهائه أيضا ما روي عنه أنه عند استيلائه على مصر كان يتنكر ويخرج وحده متشبها بالرجل من عامته ليرى ما عليه القبط من النية للمسلمين، فتمادى به السير راجلا حتى لحق بطرف الفسطاط فرأى جماعة قد التأبت على سوء منه فقال لهم (اعملوا بي كل ما تؤثرون من السوء ولا تردوني إلى يد