إلى هنا انتهى بنا البحث والتنقيب بعد طول الجهد ومواصلة العمل في حياة عمرو بن العاص رضي الله عنه: ذلك العربي الصميم والقائد العظيم والسياسي المحنك، ونرجو أن يكون القارئ قد ألم بشئ كثير من مآثر هذا الرجل، ووقف على أدوار حياته وما قام به من الأعمال الجلي والمآثر العظمى.
هنالك صلة كبيرة بين عظماء الرجال وبين الظروف التي ينشأون عليها، ويشبون في أحضانها: فمن هؤلاء من يهئ الظروف، ومنهم من تلدة هذه الظروف، فتظهر مواهبهم للعالم جلية ناصعة. تلك المواهب التي تكلل التاريخ، وذلك من فتح الفتوح وتمصير الأمصار أو العمل على تحرير بلادهم، وغير ذلك مما يبقى أثرا خالدا على كر الأيام ومر الأعوام، فمثلا (نابليون) فهو وليد الثورة الفرنساوية غير الحالة السياسية والاجتماعية في فرنسا وفي غيرها، وقلب العالم رأسا على عقب.
أما عمرو بن العاص فهو وإن كان قد ولدته الظروف كذلك وأظهرته، فهو وليد الإسلام الذي كونه قائدا محنكا، وسياسيا قديرا، وواليا عادلا، وداهية من أكبر دهاة العالم الذين دوخوا ممالكه، وأقالوا دوله، فلولا الإسلام ما ظهرت مواهب هذا الرجل وما أوتيه من جليل الصفات إلى هذا الحد، فبعد أن كانت تلك المواهب محصورة في دائرة ضيقة أصبح وقد اتسعت أمامه دائرة العمل فتجلت سجاياه ومواهبه في ميدان فتوحه الواسعة للبلاد التي غزاها، وفي كفاءته لإدارة شؤونها، والعمل على ترقيتها وترقية أهلها. إلا أنه امتاز عن هؤلاء العظماء بأنه قد ولد بعض الظروف، فهو الذي سعى لفتح مصر ففتحها وطرد الروم منها، وكان السبب في نشر الإسلام في أرجائها تدريجا، فنبه ذكره، وسما قدره، وعظم شأنه، وكتب في سمائها أكبر مثل يسطره له التاريخ إلى أبد الدهر.