من النيا أكلة يأكلها يسد بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله، واقتصر على هذا الذي بيده. إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا الله، وأمرنا به نبينا وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضوانه وجهاد عدوه. أه. باختصار.
فأمن المقوقس على كلام عبادة، وأراد أن يسلك طريق الارهاب المصوغ في قالب النصيحة فقال: أيها الرجل قد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشدة ما يبالي أحدهم من لقي ولا من قابل، وإنا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا شهرا وأنتم في ضيق وشدة من معاشكم وحالكم، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بين أيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين ولأميركم مائة دينار ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم مالا قوام لكم به. أه.
فقال عبادة: يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا بالذي تخوفنا به، ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه... إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما من شئ أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك. وإن الله عز وجل قال في كتابه (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحا ومساء أن يرزقه الشهادة، وأن لا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه، ولا إلى أهله وولده، فانظر الذي تريد فبينه لنا فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث خصال، فاختر أيها شئت ولا تطمع نفسك في الباطل. أه.