رأينا قوما الموت أحب إليهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة - ليس لأحد في الدنيا رغبة ولا نهمة، وإنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم.
فأرهب المقوقس هذا الكلام، وعلم أن قوما هذه حالهم سوف يقتحمون الحصن، وينتصرون عليهم. وأشار على قومه باغتنام فرصة الصلح قبل فواتها. فأجيب إلى طلبه. فأرسل إلى المسلمين أن يبعثوا رسلا منهم يتداعى معهم إلى ما عسى أن يكون فيه صلاح للفريقين.
فبعث عمرو بن العاص إليهم عشرة رجال عليهم عبادة بن الصامت، وأمره عمرو أن يكون متكلم القوم - وأن لا يجيبهم إلا إلى إحدى هذه الخصال الثلاث - فلما دخلت رسل المسلمين إلى المقوقس، هاب هذا عبادة لسواده وفرط طوله، وأراد أن يتقدم إليه غيره ليكلمه فقال المسلمون: إن هذا الأسود أفضلنا رأيا، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنا نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره به. أه.
ونحن نرى أن المقوقس قد توهم أن عمرو أمر عبادة - هذا الأسود - أن يكون متكلم القوم تصغيرا لشأن المقوقس، وإلا فإن المقوقس لم يعدم أن يكون في قصره العشرا ت من العبيد.
فلم ير المقوقس بدا من محادثة ومفاوضة عبادة. وابتداء هذا الحديث وقال: إنما أنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في دنيا، ولا طلب للاستكثار منها، إلا أن الله عز وجل قد أحل لنا ذلك: وجعل لنا ما غنمنا من ذلك حلالا. وما يبالي أحدنا إن كان قنطار من ذهب، أو كان لا يملك إلا رهما، لأن غاية أحدنا