وقال القرطبي: اختلف في معنى هذا الحديث فقال قوم: هو على ظاهره فمن رآه في النوم رآه على حقيقته كمن رآه في اليقظة سواء قال: وهذا قول يدرك فساده بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد الا على صورته التي مات عليها وأن لا يراه رئيان في آن واحد في مكانين وأن يحيى الان ويخرج من قبره، ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس، ويخاطبوهم ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى من قبره فيه شئ فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب، لأنه جائز ان يرى في الليل وفي النهار مع اتصال على حقيقته في غير قبره وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدني مسكة من عقل.
وقالت طائفة معناه: ان من رآه على صورته التي كان عليها ويلزم منه أن من رآه على غير حقيقته أن تكون رؤياه من الأضغاث، ومن المعلوم انه يرى في النوم على حالة تخالف حالته في الدنيا من الأحوال اللائقة به، وتقع تلك الرؤيا حقا كما لو رؤي ملأ دارا بجسمه مثلا فإنه يدل على امتلاء تلك الدار بالخير ولو تمكن الشيطان من التمثيل بشئ مما كان عليه أو ينسب إليه لعارض عموم قوله (فان الشيطان لا يتمثل بي) فالأولى أن تنزه رؤياه وكذا رؤيا شئ منه، أو مما ينسب إليه عن ذلك - فهو أبلغ في الحرمة وأليق بالعصمة، كما عصم من الشيطان في يقظته.
قال والصحيح في تأويل هذا الحديث أن مقصوده أن رؤيته في كل حالة ليست باطلة ولا أضغاثا بل هي حق في نفسها لو رؤي على غير صورته فتصور تلك ليس من الشيطان بل هو من قبل الله تعالى ويؤيده قوله: (فقد رأى الحق) أي رأى الحق الذي قصد اعلام الرائي فإن كانت على ظاهرها والا سعى في تأويلها ولا يهمل أمرها لأنها أما بشرى بخير أو انذار من شر اما ليخيف الرائي واما لينزجر عنه واما لينبه على حكم يقع له في دينه أو دنياه.
تنبيهان:
أحدهما: وقع في حديث أبي هريرة: رضي الله تعالى عنه - في الصحيحين (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي) وكذا رواه الطبراني من حديث مالك بن عبد الله الخثعمي، ومن حديث أبي بكرة والدارمي من حديث أبي قتادة - رضي الله تعالى عنه - وزاد مسلم من حديث أبي هريرة (أو فكأنما رآني في اليقظة) هكذا بالشك ووقع عند الإسماعيلي في الطريق المذكور (فقد رآني في اليقظة) بدل قوله: (فسيراني) ومثله في حديث ابن مسعود عن ابن ماجة وصححه الترمذي وأبو عوانة ووقع عند ابن ماجة من حديث أبي جحيفة فكأنما رآني في اليقظة.
قال ابن بطال معنى فسيراني في اليقظة، يريد التصديق تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها،