* - قال العلامة ابن القيم: المرض نوعان: مرض القلوب، ومرض الأبدان، وهما مذكوران في القرآن ومرض القلوب نوعان: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي، وكلاهما في القرآن.
قال تعالى في مرض الشبهة: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) (البقرة: ١٠)، وقال تعالى:
(وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا) (المدثر: ٣١).
وقال تعالى في حق من دعى إلى تحكيم القرآن والسنة، فأبى وأعرض: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون) (النور: ٤٨ - ٥٠)، فهذا مرض الشبهات والشكوك.
وأما مرضالشهوات فقال تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) (الأحزاب: ٣٢)، فهذا مرضشهوةالزنى، والله تعالى أعلم.
وأما مرض الأبدان، فقال تعالى: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) (النور: ٦١)، وذكر مرض البدن في الحجوالصوموالوضوء لسر بديع يبين لك عظمة القرآن، والاستغناء به لمن فهمه وعقله عن سواه، وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة: حفظا للصحة، والحمية عن المؤذى، واستفراغ المواد الفاسدة. فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة:
فقال في آية الصوم: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) (البقرة: ١٨٤)، فأباح الفطر للمريض لعذر المرض، وللمسافر طلبا لحفظ صحته وقوته، لئلا يذهبها الصوم في السفر، لاجتماع شدة الحركة، وما يوجبه من التحليل، وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل، فتخور القوة وتضعف، فأباح للمسافر الفطر، حفظا لصحته وقوته عما يضعفها.
وقال في آية الحج: (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأوه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) (البقرة: ١٩٦)، فأباح للمريض، ومن به أذى من رأسه، من قمل، أو حكة، أو غيرهما، أن يحلق رأسه في الإحرام، استفراغا لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر، فإذا حلق رأسه، تفتحت المسام، فخرجت تلك الأبخرة منها.
فهذا الاستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي احتباسه، والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة: الدم إذا هاج، والمنى إذا تبيغ، والبول، والغائط، والريح، والقئ، والعطاس، والنوم، والجوع، والعطش. وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحبسه.
وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها، وهو البخار المحتقن في الرأس، على استفراغ ما هو أصعب منه كما هي طريقة القرآن في التنبيه بالأدنى على الأعلى.
وأما الحمية: فقال تعالى في آية الوضوء: (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) (النساء: 43)، فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه، وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج، فقد أرشد - سبحانه - عباده إلى أصول الطب ومجامع قواعده، ونحن نذكر هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبين أن هديه فيه أكمل هدى.
فأما طب الأبدان فإنه نوعان:
نوع قد فطر الله عليه الحيوان ناطقة وبهيمه، فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب، كطب الجوع، والعطش، والبرد والتعب بأضدادها وما يزيلها.
والثاني: ما يحتاج إلى فكر وتأمل، كدفع الأمراض المتشابهة الحادثة في المزاج، بحيث يخرج بها عن الاعتدال، إما إلى حرارة، أو برودة، أو يبوسة، أو رطوبة، أو ما يتركب من اثنين منها.
فالطبيب هو الذي يفرق بين ما يضر بالإنسان جمعه، أو يجمع فيه ما يضره تفرقه، أو ينقص منه ما يضره زيادته، أو يزيد فيه ما يضره نقصه، فيجلب الصحة المفقودة، أو يحفظها بالشكل والشبه، ويدفع العلة الموجودة بالضد والنقيض، ويخرجها، أو يدفعها بما يمنع من حصولها بالحمية.
فكان من هديه صلى الله عليه وسلم فعل التداوي في نفسه، والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه، ولكن لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم ولا هدى أصحابه استعمال هذه الأدوية المركبة، التي تسمى: أقرباذين، بل كان غالب أدويتهم بالمفردات، وربما أضافوا إلى المفرد ما يعاونه، أو بكسر سورته، وهذا غالب طب الأمم على اختلاف أجناسها من العرب والترك، وأهل البوادي قاطبة، وإنما عني بالمركبات الروم واليونان، وأكثر طب الهند بالمفردات.
وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالغذاء لا يعدل عنه إلى الدواء، ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل عنه بالمركب. قالوا وكل داء قدر على دفعه بالأغذية والحمية، لم يحاول دفعه بالأدوية.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: " لكل داء دواء " تقوية لنفس المريض والطبيب، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله، تعلق قلبه بروح الرجاء، وبردت عنده حرارة اليأس، وانفتح له باب الرجاء.
وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه، وأمراض الأبدان على وزن أمراض القلوب، وما جعل الله للقلب مرضا إلا جعل له شفاء بضده، فإن علمه صاحب الداء واستعمله، وصادف داء قلبه، أبرأه بإذن الله تعالى. (زاد المعاد): 4 / 5 - 17، مختصرا.