العين حق ودواء المصاب خرج البخاري ومسلم (1)، من حديث مسلم بن إبراهيم، قال: أخبرنا وهيب عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس (رضي الله عنهما)، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العين حق، ولو كان شئ سابق القدر، سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا (2).
(١) في (الأصلين): " مسلم والنسائي " والصواب ما أثبتناه.
وفي هذا الحديث سر طبي لطيف، فإن المريض إذا تناول ما يشتهيه عن جوع صادق طبيعي، وكان فيه ضرر ما، كان أنفع وأقل ضررا مما لا يشتهيه، وإن كان نافعا في نفسه، فإن صدق شهوته، ومحبة الطبيعة يدفع ضرره، وبغض الطبيعة وكراهتها للنافع، قد يجلب لها منه ضررا.
وبالجملة: فاللذيذ المشتهى تقبل الطبيعة عليه بعناية، فتهضمه على أحمد الوجوه، سيما عند انبعاث النفس إليه بصدق الشهوة، وصحة القوة، والله تعالى أعلم. (زاد المعاد): ٤ / ١٠٦.
(٢) (فتح الباري): ١٠ / ٢٤٩، كتاب الطب، باب (٣٦) العين حق، حديث رقم (٥٧٤٠) ولفظه:
" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العين حق. ونهى عن الوشم "، وأخرجه أيضا بسنده ولفظه في كتاب اللباس، باب (٨٦) الواشمة، حديث رقم (٥٩٤٤).
قوله: " العين حق "، أي الإصابة بالعين شئ موجود، أو هو من جملة ما تحقق كونه. قال المازري: أخذ الجمهور بظاهر الحديث، وأنكره طوائف المبتدعة لغير معنى، لأن كل شئ ليس محالا في نفسه، ولا يؤدي إلى قلب حقيقة، ولا إفساد دليل، فهو من متجاوزات العقول، فإذا أخبر الشرع بوقوعه لم يكن لإنكاره معنى، وهل من فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبر به من أمور الآخرة؟
(فتح الباري).
قوله: " العين حق ونهى عن الوشم "، لم تظهر المناسبة بين هاتين الجملتين، فكأنهما حديثان مستقلان، ولهذا حذف مسلم وأبو داود الجملة ا لثانية من روايتهما، مع أنهما أخرجاه من رواية عبد الرزاق، الذي أخرجه البخاري من جهته، ويحتمل أن يقال: المناسبة بينهما اشتراكهما في أن كلا منهما يحدث في العضو لونا غير لونه الأصلي.
والوشم بفتح الواو وسكون المعجمة: أن يغرز إبرة أو نحوها في موضع من البدن حتى يسيل الدم، ثم يحشى ذلك الموضع بالكحل أو نحوه فيخضر (فتح الباري).
قال الحافظ في (الفتح): وقد ظهرت لي مناسبة بين هاتين الجملتين لم أر من سبق إليها، وهي أن من جملة الباعث على الوشم تغير صفة الموشوم لئلا تصيبه العين، فنهى عن الوشم مع إثبات العين، وأن التحيل بالوشم وغيره مما لا يستند إلى تعليم الشارع لا يفيد شيئا، وأن الذي قدره الله سيقع.
وأخرجه مسلم من حديث ابن عباس رفعه: " العين حق، ولو كان شئ سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا " (سيأتي شرحه).
فأما الزيادة الأولى، ففيها تأكيد وتنبيه على سرعة نفوذها وتأثيره في الذات، وفيها إشارة إلى الرد على من زعم من المتصوفة أن قوله: " العين حق " يريد به القدر أي العين التي تجري منها الأحكام، فإن عين الشئ حقيقته، والمعنى أن الذي يصيب من الضرر بالعادة عند نظر الناظر، إنما هو بقدر الله السابق، لا بشئ يحدثه الناظر في المنظور.
ووجه الرد: أن الحديث ظاهر في المغايرة بين القدر وبين العين، وإن كنا نعتقد أن العين من جملة المقدور، لكن ظاهره إثبات العين التي تصيب، إما بما جعل الله تعالى فيها من ذلك وأودعه فيها، وإما بإجراء العادة بحدوث الضرر عند تحديد النظر، وإنما جرى الحديث مجرى المبالغة في إثبات العين، لا أنه يمكن أن يرد القدر شئ، إذ القدر عبارة عن سابق علم الله، وهو لا راد لأمره، أشار إلى ذلك القرطبي. وحاصله لو فرض أن شيئا له قوة بحيث يسبق القدر لكان العين، لكنها لا تسبق، فكيف غيرها. (فتح الباري).
وأخرجه الإمام مسلم في (صحيحه بشرح النووي): ١٤ / ٤٢٢ - ٤٢٤، كتاب السلام، باب (١٦) الطب والمرض والرقي، حديث رقم (٢١٨٧) ولفظه: " العين حق "، وحديث رقم (٢١٨٨) بزيادة: ولو كان شئ سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا ".
قال الحافظ في (الفتح): وأما الزيادة الثانية وهي أمر العاين بالاغتسال عند طلب المعيون منه ذلك، ففيها إشارة إلى أن الاغتسال لذلك كان معلوما بينهم، وأمرهم أن لا يمتنعوا منه إذا أريد منهم، وظاهر الأمر الوجوب، وحكى المازري فيه خلافا وصحح الوجوب وقال متى خشي الهلاك، وكان اغتسال العائن مما جرت العادة الشفاء به فإنه يتعين.
وقد وقع في حديث سهل من حنيف عند أحمد والنسائي وصححه ابن حبان من طريق الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف " أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو ماء، حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة، اغتسلسهل بن حنيف - وكان أبيض حسن الجسم والجلد - فنظر إليه عامر بن ربيعة فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، فلبط - أي صرع وزنا ومعنى - سهل. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل تتهمون به من أحد؟ قالوا: عامر بن ربيعة، فدعا عامر فتغيظ عليه، فقال:
علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت؟ ثم قال اغتسل له، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخله إزاره في قدح، ثم يصب ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه وظهره، ثم يكفأ القدح، ففعل به ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس " لفظ أحمد من رواية أبي أويس عن الزهري. (فتح الباري)، ومنه تنبيهات:
الأول: اقتصر النووي في (الأذكار) على قوله: الاغتسال أن يقال للعائن: اغسل داخله إزاك مما يلي الجلد، فإذا فعل صبه على المنظور إليه، وهذا يوهم الانتصار على ذلك، وهو عجيب، ولا سيما وقد نقل في (شرح مسلم) كلام عياض بطوله.
الثاني: قال المازري: هذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل فلا يرد لكونه لا يعقل معناه، وقال ابن العربي: إن توقف فيه متشرع قلنا له: قال الله ورسوله أعلم - وقد عضدته التجربة، وصدقته المعاينة، أو متفلسف، فالرد عليه أظهر، لأن عنده الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى لا يدرك، ويسمون ما هذا سبيله الخواص.
الثالث: هذا الغسل ينفع بعد استحكام النظرة، فأما عند الإصابة وقبل الاستحكام، فقد أرشد الشارع إلى ما يدفعه بقوله في قصة سهل بن حنيف المذكور كما مضى: " إلا بركت عليه "، وفي رواية ابن ماجة: " فليدع بالبركة "، ومثله عند ابن السني من حديث عامر بن ربيعة.
وأخرج البزاز وابن السني من حديث أنس رفعه: " من رأى شيئا. وأعجبه فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لم يضره ".
وفي الحديث من الفوائد أيضا: أن العائن إذا عرف يقضى عليه بالاغتسال، وأن الاغتسال من النشرة النافعة، وأن العين تكون مع الاعجاب، ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحب، ومن الرجل الصالح.
وأن الذي يعجبه الشئ ينبغي أن يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه، وأن الماء المستعمل طاهر، وفيه جوازالاغتسال بالفضاء، وأن الإصابة بالعين قد تقتل.
وقد اختلف في جريان القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة، وهو في ذلك كالساحر عند من لا يقتله كفرا، وقال النووي في (الروضة): لا دية فيه ولا كفارة.