الذاتية فأمكن من هذه الجهة دعوى كون امتيازها عن غيرها بميز موضوعاتها المتخالفة بنحو التباين أو العموم والخصوص خصوصا بعد كون غاياتها غالبا من سنخ واحد بملاحظة كونها عبارة عن استنباط حقايق الأشياء بلوازمها.
ولكن مثل هذه الجهة لا توجب جرى جميع العلوم على منوال واحد حتى مثل العلوم الأدبية والنقلية التي هي في تمام المعاكسة مع العلوم العقلية، لأنها كما عرفت علاوة عن عدم تصور الموضوع الوحداني لها كانت غاياتها أيضا في كمال الامتياز عن الآخر من حيث الاختلاف بحسب السنخ كما في حفظ الكلام عن الغلط في علم النحو، حيث إنه سنخ غير مرتبط بحفظ الفكر عن الخطأ الذي هو الغرض في علم المنطق، وهكذا حفظ فعل المكلف وحفظ الاستنباط وغير ذلك.
بل ولئن تدبرت ترى بان الامر كذلك في العلوم العقلية أيضا حيث إن غاياتها أيضا مختلفة بحسب السنخ وان كان في بدو النظر يرى كونها من سنخ واحد.
وعلى ذلك فكان الحري الحقيق ان يقال في وجه تمايز العلوم بان ميزها انما هو من جهة الاغراض الداعية على تدوينها، لا انه من جهة تمايز موضوعاتها، وان وحدة العلم و تعدده انما هو بلحاظ وحدة الغرض وتعدده، وعليه فمتى كان الغرض والمهم واحدا كانت القواعد الدخلية في ترتب ذلك الغرض بأجمعها من مسائل علم واحد وكانت تفرد بالتدوين وان كانت متعددة موضوعا ومحمولا، كما أنه لو كان الغرض والمهم متعددا يكون تكثر العلوم حسب تكثر الاغراض وعليه فلو أراد من هو بصدد تدوين العلم و الفن في علم العربية وكان غرضه الاطلاع على جميع خصوصيات ألفاظ العرب مما يرجع إلى مادة اللفظ وهيئته، فعند ذلك لابد بمقتضى ما ذكرنا من جعل العلوم العربية كلها علما واحدا وان يفردها بالتدوين أيضا، وان كان لغرضه ذلك جهات متعددة راجعة بعضها إلى مادة الكلمة وبعضها إلى هيئتها وبعضها إلى هيئة الكلام، إذ حينئذ يكون البحث في كل جهة من تلك الجهات في الحقيقة بابا من ذلك العلم لا علما مستقلا، كما أنه لو تعلق غرضه بالتكلم الصحيح من حيث خصوص الاعراب والبناء لابد وان يجعل النحو علما برأسه في قبال الصرف ونحوه من العلوم العربية، وليس له جعل العلوم العربية كلها علما واحدا، وهكذا الكلام في غيره من العلوم. فحينئذ لابد من ملاحظة سعة دائرة الغرض وضيقها في وحدة العلم وتعدده، وعليه أيضا ربما تكون المسألة الواحدة