وإنما يقبح ذلك لا لأنه يدل على البداء، لكن لأنه تكليف ما لا يطاق، ولأن ما يصح أن نفعله في وقت، لا يصح أن نفعله في وقت آخر، لاختصاص مقدور القدر بالأوقات على ما دل عليه الدليل.
وإنما جعلنا المأمور هو المنهي، لأنه لو صح كون المقدور الواحد لقادرين لم يمتنع أمر أحدهما به ونهى الآخر عنه على بعد ذلك.
وإنما قلنا إن ما اجتمعت فيه هذه الشرائط لا يجوز على القديم تعالى، لأنا قد بينا أن الله تعالى إنما يأمر العبد بالشئ لتعلق المصلحة به، وينهاه لتعلق المفسدة به، ومحال في الشئ الواحد، في الوقت الواحد، أن يكون مصلحة ومفسدة.
وأما نسخ الشريعة فمخالف لما قدمناه، لأنا قد بينا في حده أنه إسقاط الحكم الذي تناوله النص المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تراخيه عنه، وذلك يقتضي أن المأمور به غير المنهي، عنه وأن وقت المنهي غير وقت المأمور به.
وقد بينا أيضا الفرق بين النسخ والتخصيص (1)، وذكرنا أن تخصيص العموم هو: " ما دل على أنه لم يرد به إلا بعض ما تناوله اللفظ "، وأنه لا يصح دخوله مما لم يتناوله لفظ العموم، والنسخ بخلافه، وبينا أيضا أن شروطهما وأحكامهما تختلف، لأن النسخ يصح فيما لا يصح التخصيص فيه، ويصح التخصيص فيما لا يصح النسخ فيه، وذلك واضح.
والذي يعتمد في هذا الباب أن النسخ والتخصيص جميعا يتناولان الأفعال دون الأعيان والأوقات والأحوال، على خلاف ما يدعيه بعض من يتكلم في هذا الباب، لأن التخصيص يدل على أنه لم يرد بالعموم ما لولاه لكان يدل على أنه مراد، وكذلك النسخ. والذي يريده المخاطب الحكيم هو الأفعال دون الأعيان والأوقات، لأن الأعيان لا يصح أن تراد، والأوقات لا يحتاج إلى إرادتها، لأنها ليست متعلقة بالتكليف، وكذلك الأحوال، فإذا صح هذا صح ما قلناه.