يقول تعالى منكرا على الكفار الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهم مشاهدون له ولما أرسله الله به من الهدى وما أيده الله به من المعجزات الباهرات ثم هم مع هذا كله فارون منه متفرقون عنه شاردون يمينا وشمالا فرقا فرقا وشيعا شيعا كما قال تعالى " فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة " الآية وهذه مثلها فإنه قال تعالى " فما للذين كفروا قبلك مهطعين " أي فما لهؤلاء الكفار الذين عندك يا محمد مهطعين أي مسرعين نافرين منك كما قال الحسن البصري مهطعين أي منطلقين (عن اليمين وعن الشمال عزين) واحدها عزة أي متفرقين وهو حال من مهطعين أي في حال تفرقهم واختلافهم كما قال الإمام أحمد في أهل الأهواء فهم مخالفون للكتاب مختلفون في الكتاب متفقون على مخالفة الكتاب وقال العوفي عن ابن عباس " فما للذين كفروا قبلك مهطعين " قال قبلك ينظرون " عن اليمين وعن الشمال عزين " قال العزين العصب من الناس عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به وقال ابن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا أبو عامر حدثنا قرة عن الحسن في قوله " عن اليمين وعن الشمال عزين " أي متفرقين يأخذون يمينا وشمالا يقولون ما قال هذا الرجل وقال قتادة " مهطعين " عامدين " عن اليمين وعن الشمال عزين " أي فرقا حول النبي صلى الله عليه وسلم لا يرغبون في كتاب الله ولا في نبيه صلى الله عليه وسلم وقال الثوري وشعبة وعبثر بن القاسم وعيسى بن يونس ومحمد بن فضيل ووكيع ويحيى القطان وأبو معاوية كلهم عن الأعمش عن المسيب بن رافع عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم حلق فقال " مالي أراكم عزين " رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير من حديث الأعمش به وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حلق حلق فقال " ما لي أراكم عزين " وهذا إسناد جيد ولم أره في شئ من الكتب الستة من هذا الوجه.
وقوله تعالى (أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم * كلا) أي أيطمع هؤلاء والحالة هذه من فرارهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ونفارهم عن الحق أن يدخلوا جنات النعيم. كلا بل مأواهم جهنم. ثم قال تعالى مقررا لوقوع المعاد والعذاب بهم الذي أنكروا كونه واستبعدوا وجوده مستدلا عليهم بالبداءة التي الإعادة أهون منها وهم معترفون بها فقال تعالى (إنا خلقناهم مما يعلمون) أي من المني الضعيف كما قال تعالى " ألم نخلقكم من ماء مهين " وقال " فلينظر الانسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر فماله من قوة ولا ناصر " ثم قال تعالى (فلا أقسم برب المشارق والمغارب) أي الذي خلق السماوات والأرض وجعل مشرقا ومغربا وسخر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها. وتقدير الكلام ليس الامر كما يزعمون أن لا معاد ولا حساب ولا بعث ولا نشور بل كل ذلك واقع وكائن لا محالة ولهذا أتى بلا في ابتداء القسم ليدل على أن المقسم عليه نفي وهو مضمون الكلام وهو الرد على زعمهم الفاسد في نفي يوم القيامة وقد شاهدوا من عظيم قدرة الله تعالى ما هو أبلغ من إقامة القيامة وهو خلق السماوات والأرض وتسخير ما فيهما من المخلوقات من الحيوانات والجمادات وسائر صنوف الموجودات ولهذا قال تعالى " لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون " وقال تعالى " أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى بلى إنه على كل شئ قدير " وقال تعالى في الآية الأخرى " أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " وقال ههنا (فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم) أي يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه فإن قدرته صالحة لذلك " وما نحن بمسبوقين " أي بعاجزين كما قال تعالى " أيحسب الانسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه " وقال تعالى " على أن نبدل خيرا منهم " أي أمة تطيعنا ولا تعصينا وجعلها كقوله " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " والمعنى