لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9) يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين " عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة " أي محبة بعد البغضة ومودة بعد النفرة وألفة بعد الفرقة " والله قدير " أي على ما يشاء من الجمع بين الأشياء المتنافرة والمتباينة والمختلفة فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة فتصبح مجتمعة متفقة كما قال تعالى متنا على الأنصار " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " الآية وكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ " وقال الله تعالى " هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ". وفي الحديث " أحبب حبيبك هونا ما فعسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما فعسى أن يكون حبيبك يوما ما " وقال الشاعر:
وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما * يظنان كل الظن أن لا تلاقيا وقوله تعالى " والله غفور رحيم " أي يغفر للكافرين كفرهم إذا تابوا منه وأنابوا إلى ربهم وأسلموا له وهو الغفور الرحيم بكل من تاب إليه من أي ذنب كان.
وقد قال مقاتل بن حيان إن هذه الآية نزلت في أبي سفيان صخر بن حرب فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ابنته فكانت هذه مودة ما بينه وبينه وفي هذا الذي قاله مقاتل نظر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بأم حبيبة بنت أبي سفيان قبل الفتح وأبو سفيان إنما أسلم ليلة الفتح بلا خلاف وأحسن من هذا ما رواه ابن أبي حاتم حيث قال قرئ على محمد بن عزيز حدثني سلامة حدثني عقيل حدثني ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان صخر بن حرب على بعض اليمن فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل فلقي ذا الخمار مرتدا فقاتله فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين قال ابن شهاب وهو ممن أنزل الله فيه " عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة " الآية. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن أبا سفيان قال يا رسول الله ثلاث أعطنيهن قال " نعم " قال تأمرني أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين قال " نعم " قال ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك قال " نعم " قال وعندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها - الحديث - وقد تقدم الكلام عليه. وقوله تعالى " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ولم يظاهروا " أي يعاونوا على إخراجكم أي لا ينهاكم عن الاحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين كالنساء والضعفة منهم " أن تبروهم " أي تحسنوا إليهم " وتقسطوا إليهم " أي تعدلوا " إن الله يحب المقسطين ". قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟
قال " نعم صلي أمك " أخرجاه وقال الإمام أحمد حدثنا عارم حدثنا عبد الله بن المبارك حدثنا مصعب بن ثابت حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا ضباب وقرظ وسمن وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين " إلى آخر الآية فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها. وهكذا رواه ابن جرير