عند عدم المسلمين كلهم يقولون " منكم " من المؤمنين ومعنى " من غيركم " يعني الكفار.
قال بعضهم: وذلك أن الآية نزلت (1) ولا مؤمن إلا بالمدينة، وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة. والآية محكمة على مذهب أبي موسى وشريح وغيرهما.
القول الثاني - أن قوله سبحانه: " أو آخران من غيركم " منسوخ، هذا قول زيد بن أسلم والنخعي ومالك، والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء، إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال:
تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض، ولا تجوز على المسلمين واحتجوا بقوله تعالى:
" ممن ترضون من الشهداء " (2) [البقرة: 282] وقوله: " وأشهدوا ذوي عدل منكم " (2) [الطلاق: 2]، فهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزل، وأن فيها " ممن ترضون من الشهداء " فهو ناسخ لذلك، ولم يكن الاسلام يومئذ إلا بالمدينة، فجازت شهادة أهله الكتاب، وهو اليوم طبق الأرض فسقطت شهادة الكفار، وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز، والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم.
قلت: ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبه، وأن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم، وأما مع وجود مسلم فلا، ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل، وقد قال بالأول ثلاثة من الصحابة وليس ذلك في غيره، ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم. ويقوي هذا أن سورة " المائدة " من آخر القرآن نزولا حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما: إنه لا منسوخ فيها. وما ادعوه من النسخ لا يصح فإن النسخ لا بد فيه من إثبات الناسخ على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراخي الناسخ، فما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخا، فإنه في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة، ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات، ولأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم ويرتضيه عند الضرورة، فليس فيما قالوه ناسخ.
القول الثالث - أن الآية لا نسخ فيها، قاله الزهري والحسن وعكرمة، ويكون معنى قوله: " منكم " أي من عشيرتكم وقرابتكم، لأنهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان (3).