وادعوا عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة، أي تستوثقوا منهما، وسمى الله تعالى الموت في هذه الآية مصيبة، قال علماؤنا: والموت وإن كان مصيبة عظمي، ورزية كبرى، فأعظم منه الغفلة عنه، والاعراض عن ذكره، وترك التفكر فيه، وترك العمل له، وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر، وفكرة لمن تفكر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم [أنه قال:] (1) (لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا). ويروى أن أعرابيا كان يسير على جمل له، فخر الجمل ميتا فنزل الأعرابي عنه، وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول: ما لك لا تقوم؟! ما لك لا تنبعث؟! هذه أعضاؤك كاملة، وجوارحك سالمة، ما شأنك؟!
ما الذي كان يحملك؟! ما الذي كان يبعثك؟! ما الذي صرعك؟! ما الذي عن الحركة منعك؟! ثم تركه وانصرف متفكرا في شأنه، متعجبا من أمره.
التاسعة - قوله تعالى: (تحبسونهما) قال أبو علي: " تحبسونهما " صفة ل " آخران " واعترض بين الصفة والموصوف بقوله: " إن أنتم ". وهذه الآية أصل في حبس من وجب عليه حق، والحقوق على قسمين: منها ما يصلح استيفاؤه معجلا، ومنها ما لا يمكن استيفاؤه إلا مؤجلا، فإن خلي من عليه [الحق] (1) غاب واختفى وبطل الحق وتوي (2) فلم يكن بد من التوثق منه (3) فإما بعوض عن الحق وهو المسمى رهنا، وإما بشخص ينوب منابه في المطالبة والذمة وهو الحميل (4)، وهو دون الأول، لأنه يجوز أن يغيب كمغيبه ويتعذر وجوده كتعذره، ولكن لا يمكن أكثر من هذا فإن تعذرا جميعا لم يبق إلا التوثق بحبسه حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حق، أو تبين عسرته.
العاشرة - فإن كان الحق بدنيا لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق (5) استيفاؤه معجلا، لم يكن فيه إلا التوثق بسجنه، ولأجل هذه الحكمة شرع السجن، روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة. وروى أبو داود عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم