إليه إلا بدليل منفصل، فإن قيل كيف قال: * (أدعوني أستجيب لكم) * وقد يدعى كثيرا فلا يستجاب أجاب الكعبي عنه بأن قال: الدعاء إنما يصح على شرط، ومن دعا كذلك استجيب له، وذلك الشرط هو أن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة وحكمة، ثم سأل نفسه فقال: فما هو أصلح يفعله بلا دعاء، فما الفائدة في الدعاء! وأجاب: عنه من وجهين الأول: أن فيه الفزع والانقطاع إلى الله والثاني: أن هذا أيضا وارد على الكل، لأنه إن علم أنه يفعله فلا بد وأن يفعله، فلا فائدة في الدعاء، وإن علم أنه لا يفعله فإنه البتة لا يفعله، فلا فائدة في الدعاء، وكل ما يقولونه ههنا فهو جوابنا، هذا تمام ما ذكره، وعندي فيه وجه آخر وهو أنه قال: * (أدعوني أستجيب لكم) * فكل من دعا الله وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله وجاهه وأقاربه وأصدقائه وجده واجتهاده، فهو في الحقيقة ما دعا الله إلا باللسان، أما بالقلب فإنه معول في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله، فهذا الإنسان ما دعا ربه في وقت، أما إذا دعا في وقت لا يبقى في القلب التفات إلى غير الله، فالظاهر أنه تحصل الاستجابة، إذا عرفت هذا ففيه بشارة كاملة، وهي أن انقطاع القلب بالكلية عما سوى الله لا يحصل إلا عند القرب من الموت، فإن الإنسان قاطع في ذلك الوقت بأنه لا ينفعه شيء سوى فضل الله تعالى، فعلى القانون الذي ذكرناه وجب أن يكون الدعاء في ذلك الوقت مقبولا عند الله، ونرجو من فضل الله وإحسانه أن يوفقنا للدعاء المقرون بالإخلاص والتضرع في ذلك الوقت، واعلم أن الكلام المستقصى في الدعاء قد سبق ذكره في سورة البقرة.
ثم قال تعالى: * (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) * أي صاغرين وهذا إحسان عظيم من الله تعالى حيث ذكر الوعيد الشديد على ترك الدعاء، فإن قيل روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حكاية عن رب العزة أنه قال: * (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " فهذا الخبر يقتضي أن ترك الدعاء أفضل، وهذه الآية تدل على أن ترك الدعاء يوجب الوعيد الشديد، فكيف الجمع بينهما؟ قلنا لا شك أن العقل إذا كان مستغرقا في الثناء كان ذلك أفضل من الدعاء، لأن الدعاء طلب للحظ والاستغراق في معرفة جلال الله أفضل من طلب الحظ، أما إذا لم يحصل ذلك الاستغراق كان الاشتغال بالدعاء أولى، لأن الدعاء يشتمل على معرفة عزة الربوبية وذلة العبودية.
ثم قال تعالى: * (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) * واعلم أن تعلقه بما قبله من وجهين الأول: كأنه تعالى قال: إني أنعمت عليك قبل طلبك لهذه النعم الجليلة العظيمة، ومن أنعم قبل السؤال بهذه النعم العالية فكيف لا ينعم بالأشياء القليلة بعد السؤال والثاني: أنه تعالى لما أمر بالدعاء، فكأنه قيل الاشتغال بالدعاء لا بد وأن يكون مسبوقا بحصول المعرفة، فما الدليل على وجود الإله القادر، وقد ذكر الله تعالى هذه الدلائل العشرة على وجوده وقدرته وحكمته، واعلم أنا بينا أن دلائل وجود الله وقدرته، إما فلكية، وإما عنصرية، أما الفلكيات فأقسام كثيرة أحدها: تعاقب الليل والنهار، و (لما) كان أكثر مصالح العالم مربوطا بهما فذكرهما الله