وما كذب الباقلاني ولا أفك في مسألتي ترتيب الآيات، وترتيب مواضع السور في القرآن، وما خرج بقوله فيهما عما قاله أعلام الأئمة وأجمعوا عليه. فقد أجمعوا جميعا على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة فيه، وأيد إجماعهم ما ترادف في ذلك من النصوص. ولم تجتمع كلمتهم على أن ترتيب السور توقيفي، فمنهم من قال به، ومنهم من قال: إنه باجتهاد من الصحابة، كمالك بن أنس.
وأنصع دليل على صدق الباقلاني وبراءته مما رماه به ابن حزم، قوله في كتاب: " الانتصار لنقل القرآن ": " ترتيب الآيات أمر واجب، وحكم لازم، فقد كان جبريل يقول: ضعوا آية كذا موضع كذا ". وقوله أيضا في ذلك الكتاب (ورقة 4 - ب): " والذي نذهب إليه في ذلك أن جميع القرآن الذي أنزله الله، وأمر بإثبات رسمه، ولم ينسخه، ويرفع تلاوته بعد نزوله - هو هذا الذي بين الدفتين، الذي حواه مصحف عثمان، وأنه لم ينقص منه شئ، ولا زيد فيه، وأن ترتيبه ونظمه ثابت على ما نظمه الله تعالى، ورتبه عليه رسوله، من آي السور، لم يقدم من ذلك مؤخرا، ولا أخر منه مقدما، وأن الأمة ضبطت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ترتيب آي كل سورة ومواضعها، وعرفت مواقعها:
كما ضبطت عنه نفس القراءات وذات التلاوة، وأنه يمكن أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم، قد رتب سوره على ما انطوى عليه مصحف عثمان، ويمكن أن يكون قد وكل ذلك إلى الأمة بعده، ولم يتول ذلك بنفسه. وأن هذا القول الثاني أقرب وأشبه أن يكون حقا ".
ولن يمتري إنسان - بعد قراءة هذا الكلام - في تكذيب ابن حزم في قوله، إن الباقلاني يقول: " إن ترتيب الآيات والسور شئ فعله الناس، وليس هو من عند الله ولا من أمر رسول الله. فقد كذب هذا الجاهل وأفك! " ولن يمتري كذلك في أنه نص صريح في تكذيب ابن حزم في قوله عن الأشاعرة: " وقالوا كلهم: إن القرآن لم ينزل به قط جبريل على قلب محمد، عليه الصلاة والسلام، وإنما نزل عليه بشئ آخر هو العبارة عن كلام الله، وإن القرآن ليس عندنا البتة إلا على هذا المجاز، وإن الذي نرى في المصاحف ونسمع