ويستأنس بالأخذ منه بخلاف (1) ما يستأنس بالأخذ من غيره، ويألف اتباعه كما لا يألف اتباع سواه، وكما كان أبو تمام يلم بأبي نواس ومسلم، وكما يعلم أن بعض الشعراء يأخذ من كل أحد ولا يتحاشى، ويؤلف ما يقوله من فرق شتى.
وما الذي نفع " المتنبي " جحوده الاخذ، وإنكاره معرفة " الطائيين " وأهل الصنعة يدلون على كل حرف أخذه منهما جهارا، أو ألم بهما فيه سرارا؟!
/ وأما ما لم يأخذ عن الغير، ولكن سلك النمط، وراعى النهج، فهم يعرفونه، ويقولون: هذا أشبه به من التمر بالتمرة، وأقرب إليه من الماء إلى الماء، وليس بينهما إلا كما بين الليلة والليلة، فإذا تباينا وذهب أحدهما في غير مذهب صاحبه، وسلك في غير جانبه (2)، قيل: بينهما ما بين السماء والأرض، وما بين النجم والنون (3)، وما بين المشرق والمغرب.
* * * وإنما أطلت عليك، ووضعت جميعه بين يديك، لتعلم أن أهل الصنعة يعرفون دقيق هذا الشأن وجليله، وغامضه وجليه، وقريبه وبعيده، ومعوجه ومستقيمه. فكيف يخفى عليهم الجنس الذي هو بين الناس متداول، وهو قريب متناول، من أمر يخرج عن أجناس كلامهم، ويبعد عما هو في عرفهم، ويفوت مواقع قدرهم؟!
وإذا اشتبه ذلك، فإنما يشتبه على ناقص في الصنعة، أو قاصر عن معرفة طرق الكلام الذي يتصرفون فيه ويديرونه (4) بينهم ولا يتجاوزونه، فلكلامهم سبل مضبوطة، وطرق معروفة محصورة.
وهذا كما يشتبه على من يدعى الشعر - من أهل زماننا - والعلم بهذا / الشأن، فيدعى أنه أشعر من البحتري، ويتوهم أنه أدق مسلكا من أبى نواس، وأحسن طريقا من مسلم! وأنت تعلم أنهما متباعدان، وتتحقق أنهما لا يجتمعان