وأقول وبالله التوفيق: إن البدل هنا صحيح، فإنه إذا قال (أحسبوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) وقوله (وهم لا يفتنون) جملة في موضع الحال، فكأنه قال:
أحسبوا أن يدعوا الإيمان غير مختبرين ممتحنين بمشاق التكليف، فيكون التقدير في معنى الآية: أحسبوا أن يتركوا، أحسبوا أن يهملوا. ولا شك أن الإهمال في معنى الترك، فيكون الثاني في معنى الأول بعينه. وأما الوجه الأول، فإنك لو قدرت اللام فقلت: لأن يقولوا، أو الباء فقلت: بأن يقولوا، فلا شك أن الحرف يتعلق بيتركوا.
فإن الجار والمجرور في موضع نصب به، فتساهل الزجاج في العبارة عن المجرور بأنه منصوب. وقوله (ساء ما يحكمون): ما هذه يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون اسما مفردا نكرة في موضع النصب على التمييز، والتقدير: ساء حكما يحكمون والثاني: أن يكون حرفا موصولا، ويحكمون صلته، وتقديره: ساء الحكم حكمهم.
النزول: قيل: نزلت الآية في عمار بن ياسر، وكان يعذب في الله، عن ابن جريج. وقيل: نزلت في أناس مسلمين كانوا بمكة، فكتب إليهم من كان في المدينة أنه لا يقبل منكم الإقرار بالإسلام حتى تهاجروا. فخرجوا إلى المدينة فاتبعهم المشركون فآذوهم، وقاتلوهم. فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، عن الشعبي.
وقيل: إنه أراد بالناس الذين آمنوا بمكة سلمة بن هشام، وعياش ابن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وعمار بن ياسر، وغيرهم، عن ابن عباس.
المعنى: (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون) أي أظن الناس أن يقنع منهم بأن يقولوا إنا مؤمنون فقط، ويقتصر منهم على هذا القدر، ولا يمتحنون بما تبين به حقيقة إيمانهم، هذا لا يكون. وهذا استفهام إنكار وتوبيخ.
وقيل: إن معنى يفتنون: يبتلون في أنفسهم وأموالهم، عن مجاهد، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. ويكون المعنى ولا يشدد عليهم التكليف والتعبد، ولا يؤمرون، ولا ينهون. وقيل: معناه ولا يصابون بشدائد الدنيا ومصائبها، أي: إنها لا تندفع بقولهم آمنا. وقال الحسن: معناه أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا: لا إله إلا الله، ولا يختبروا أصدقوا أم كذبوا. يعني أن مجرد الإقرار لا يكفي. والأولى حمله على الجميع، إذ لا تنافي، فإن المؤمن يكلف بعد الإيمان بالشرائع، ويمتحن في النفس والمال، ويمنى بالشدائد، والهموم، والمكاره. فينبغي أن يوطن نفسه على