الشريعة فليعلم حق العلم ليراعي حق الرعاية. ولا ينسى القارئ أن ما تقدم شهادة تلميذ هو إمام فهو أعرف بشيخه ولعل هذا يكفي في دفع ما ربما يقوله بعض المغرورين بالذهبي أو ينقله عن بعض المغرورين.
وقد أشرت إلى حاله في مواضع مما علقت به على ذيول طبقات الحفاظ وزغل العلم.
ومما يزيدك بصيرة في هذا الباب اجتراء الذهبي على حذف لفظ (إن صحت الحكاية عنه) من كلام البيهقي في الأسماء والصفات (ص ٣٠٣) عندما نقل كلامه في كتاب العلو (ص ١٢٦) في صدد نسبة القول بأن الله في السماء، إلى أبي حنيفة ليخيل إلى السامع أن سند هذه الرواية لا مغمز فيه مع أن نوحا الجامع ربيب مقاتل بن سليمان المجسم، في السند هالك مثل زرج أمه، وكذلك نعيم بن حماد ربيب نوح، وقد ذكره كثير من أئمة أصول الدين في عداد المجسمة فأين التعويل على رواية مجسم فيما يحتج به لمذهبه؟ وليس بقليل ما ذكره الذهبي في حقهما في ميزان الاعتدال على أنه لو سبق التفاف نحو عشرة آلاف شخص حول بدعه امرأة أتت من ترمذ إلى الكوفة للدعوة إلى مذهب جهم لكان لهذا النبأ شأن عظيم في كتب الأنباء والرواية ولما انفرد بمثل ذلك الخبر يحيى بن يعلى المجهول عن نعيم بن حماد الهالك عن نوح الجامع لكل شئ غير الصدق ولا كان انفرد أحمد بن جعفر بن نصر عن يحيى المذكور ولا أبو الشيخ بن حيان صاحب كتاب العظمة الذي يحوي كل هائف وقد ضعفه بلدية الحافظ العسال، وقد أشار البيهقي بقوله (إن صحت الحكاية) إلى ما في الرواية من وجوه الخلل. وعندما حذف الذهبي هذا اللفظ يظن من لا خبرة عنده بالرجال أن الإله في السماء قول فقيه الملة إمام شطر هذه الأمة بل ثلثيها في جميع القرون مع بطلان رواية ذلك عنه بالمرة. ولأبي حنيفة كلمة في الفقه الأبسط رواية أبي مطيع عنه وهي (من قال لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض كفر) وعلل الأصحاب ذلك بأن هذا القائل جوز المكان في حقه تعالى وهر كفر؟ وما طبع في الهند باسم شرح الفقه الأكبر للماتريدي إنما هو شرح أبي الليث على الفقه الأبسط مع سقم النسخة الهندية، وبدار الكتب المصرية نسخة خطية جيدة من شرح أبي الليث. وقد زاد أبو إسماعيل الهروي في الفروق على تلك الكلمة ما شاء من كيسه مما يوافق مذهبه في التجسيم كذبا وزورا بسند مركب، ونقل الذهبي في كتاب العلو جملة ذلك بدون أن يذكر سند الهروي في روايته تعمية وتدريجا للباطل، وكذا فعل الناظم في عزوه - راجع شرح أبي الليث وشرح البزدوي وإشارات المرام في عبارات الإمام للبياضي، ودفع الشبه للتقي الحصني وشرح الفقه الأكبر لعلي القارئ فيما نقله عن ابن عبد السلام ولم يراقب الله من زاد على الكلمة السابقة ما أشرنا إليه كما وقع في بعض نسخ الكتاب المذكور من عهد ذلك الهروي. وقد روى الذهبي في كتاب العلو أيضا عن الدارقطني الأبيات المعروفة عند المجسمة بسند يقول فيه أنبأنا أحمد بن سلامة عن يحيى بن بوش أنبأنا ابن كادش أنشدنا أبو طالب العشاري أنشدنا الدارقطني: حديث الشفاعة في أحمد. إلى أحمد المصطفى بسنده الأبيات (وآخرها كما في بدائع الفوائد لابن القيم ٤ - ٣٩).
فلا تنكروا أنه قاعد * ولا تجحدوا أنه يقعد فأحمد بن سلامة الحنبلي شيخ الذهبي مات سنة ٦٧٨ والذهبي ابن خمس، ويحيى بن أسعد بن بوش الحنبلي الخباز المتوفى سنة ٥٩٣ وأحمد بن سلامة ابن أربع كان أميا لا يكتب، وأبو العز بن كادش أحمد بن عبيد الله المتوفى سنة ٥٢٦ من أصحاب العشاري اعترف بالوضع ويقال ثم تاب، راجع الميزان.
وحكم مثله عند أهل النقد معروف، وأبو طالب محمد بن علي العشاري الحنبلي المتوفى سنة ٤٥٢ مغفل يتقن ما يلقن، وقد راجت عليه العقيدة المنسوبة إلى الشافعي كذبا، وكل ذلك باعتراف الذهبي نفسه في الميزان وغيره، فهل يصح عزو تلك الأبيات إلى الدارقطني بمثل هذا السند؟ وقال الذهبي أيضا في العبر في ترجمة أبي يعلى الحنبلي: (صاحب التصانيف وفقيه العصر كان إماما لا يدرك قراره ولا يشق غباره وجميع الطائفة معترفون بفضله ومغترفون من بحره). وأنت علمت حال أبي يعلى مما ذكره ابن الجوزي في دفع الشبه، ومما نقلناه عن كتبه في هذا الكتاب ومما ذكره ابن الأثير في الكامل في حوادث سنة ٤٢٩، وترى الذهبي كثيرا ما يقول في رد ما أخرجه الحاكم في المستدرك في فضائله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته عليهم السلام: أظنه باطلا. بدون ذكر أي حجة، وقد ذكر ابن الوردي في تاريخه أنه آذى كثيرا من الأحياء بتدوين ما كان يسمعه من أحداث يجتمعون به.
وفيما ذكرنا كفاية في معرفة حال الذهبي نسأل الله السلامة، ومع ذلك هو أهون شرا من الناظم وشيخه كما سبق، وله رسالة إلى ابن تيمية ينصحه فيها ويمنعه من المغالاة، وسبق نشرها مع زغل العلم له. وترى الذهبي مع ثنائه البالغ في حق ابن تيمية في كثير من كتبه. يقول عنه: " وقد أوذيت من الفريقين من أصحاب وأضداده وأنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية ا ه كما في الدرر الكامنة، ويقول عنه أيضا: إنه أطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا وجسر هو عليها أ ه " نقله ابن رجب عنه في طبقاته. ويقول عنه أيضا في زغل العلم (ص ١٧).. وقد تعبت في وزنه وتفتيشه حتى مللت في سنين متطاولة، فما وجدت الذي أخره بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدرؤا به وكذبوه وكفروه إلا الكبر والعجب وفرط الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار، فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة الظهور.. وما دفع الله عنه وعن أتباعه أكثر، وما جرى عليهم إلا بعض ما يستحقون فلا تكن في ريب من ذلك ا ه ".
ويقول عنه أيضا في (ص ٢٣) من زغل العلم: "... وقد رأيت ما آل أمره إليه من الحط عليه والهجر والتضليل والتكفير والتكذيب بحق وبباطل فقد كان قبل أن يدخل في هذه الصناعة منورا مضيئا على محياه سيما السلف ثم صار مظلما مكسوفا عليه قتمة عند خلائق من الناس، ودجالا أفاكا كافرا عند أعدائه، ومبتدعا مضلا محققا بارعا عند طوائف من عقلاء الفضلاء أو حامل راية الإسلام، وحامي حوزة الدين ومحيي السنة عند عموم عوام أصحابه ا ه ". وهذه الكلمات نقلها السخاوي عنه أيضا في (الإعلان بالتوبيخ) ومن الخطأ الفاحش عزوها إلى (قمع المعارض) للسيوطي اغترارا بوضع رقم التعليق في (القول الجلي) غلاط عند كلمة (قمع المعارض) مع تصحيف (زغل العلم) إلى (رجل العلم) بعد أسطر في الطبعتين مع إن أصل التعليق كان على (زغل العلم) المصحف إلى (رجل العلم) كما نبهت على ذلك فيما علقت على الزغل المطبوع وإن لم ينفع تنبيهي عند أناس لا يوقظهم من سباتهم العميق غير نفخة الصور ونسبة (زغل العلم) إلى الذهبي ليست بموضع ريبة أصلا، وهو من المخطوطات المصورة في التيمورية بدار الكتب المصرية وسنأتي إن شاء الله تعالى في آخر الكتاب بصورة رسالة الذهبي التي بعث بها إلى ابن تيمية ينصحه في شواذه ويكفي ما ذكرناه هنا في تبيين نظر الذهبي لابن تيمية مع أنه من أهل مذهبه المنخدعين به فنسجل للذهبي هذه الحسنات كتسجيلنا لسيئاته المذكورة مراعاة للعدل فيما له وفيما عليه وإيقاظا للمغترين به، والله ولي الهداية.