واعلم أنه يستحب لصاحب الغيبة أن يبرئه منها ولا يجب عليه ذلك لأنه تبرع وإسقاط حق، فكان إلى خيرته، ولكن يستحب له استحبابا متأكدا الإبراء ليخلص أخاه المسلم من وبال هذه المعصية، ويفوز هو بعظيم ثواب الله تعالى في العفو ومحبة الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) [آل عمران: 134] وطريقه في تطبيب نفسه بالعفو أن يذكر نفسه أن هذا الأمر قد وقع، ولا سبيل إلى رفعه، فلا ينبغي أن أفوت ثوابه وخلاص أخي المسلم، وقد قال الله تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) [الشورى: 43] وقال تعالى: (خذ العفو....) الآية [الأعراف: 199]. والآيات بنحو ما ذكرنا كثيرة.
1053 - وفي الحديث الصحيح أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " (1) وقد قال الشافعي رحمه الله: من استرضي فلم يرض فهو شيطان. وقد أنشد المتقدمون:
قيل لي قد أساء إليك فلان * ومقام الفتى على الذل عار قلت: قد جاءنا وأحدث عذرا * دية الذنب عندنا الاعتذار فهذا الذي ذكرناه من الحث على الإبراء عن الغيبة هو الصواب. وأما ما جاء عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا أحلل من ظلمني. وعن ابن سيرين: لم أحرمها عليه فأحللها له، لان الله تعالى حرم الغيبة عليه، وما كنت لأحلل ما حرمه الله تعالى أبدا، فهو ضعيف أو غلط، فإن المبرئ لا يحلل محرما، وإنما يسقط حقا ثبت له، وقد تظاهرت نصوص الكتاب والسنة على استحباب العفو وإسقاط الحقوق المختصة بالمسقط، أو يحمل كلام ابن سيرين على أني لا أبيح غيبتي أبدا، وهذا صحيح فإن الإنسان لو قال:
أبحت عرضي لمن اغتابني لم يصر مباحا، بل يحرم على كل أحد غيبة غيره.
1054 - وأما الحديث: " أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال إني تصدقت بعرضي على الناس " (2) فمعناه: لا أطلب مظلمتي ممن ظلمني لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا ينفع في إسقاط مظلمة كانت موجودة قبل الإبراء. فأما يحدث بعده، فلا بد من إبراء جديد بعدها، وبالله التوفيق.