وفي أيام هارون الرشيد لما ولي أبا يوسف القضاء، كان لا يولى القضاء إلا لمن أشار عليه أبو يوسف، وكان لا يشير إلا من كان مقلدا لأبي حنيفة، وكذلك في الأندلس لما اختص بيحيى بن يحيى بن كثير الأندلسي صاحب مالك فكان لا يولي الحكم إلا مالكيا فصار أهل الأندلس مالكية، ولم تزل المذاهب خاضعة للملوك والامراء، يرفعها قوم ويخفضها آخرون، وهذا واضح لمن تأمل التاريخ وسير الخلفاء والملوك والامراء والحكام.
(في فضل علم الحديث) لا شك بأن شرف العلوم يتفاوت بشرف موضوعها، ولا خلاف عند أهل العلم و ذوي البصائر إن أجل العلوم ما كان نفعه أعم وفائدته أتم، وهذا العلم هو علم الشريعة الذي هو طريق السعداء إلى دار البقاء، من تمسك به اهتدى ونجى من الهلاك و الردى، ومن علوم الشريعة علم الحديث والآثار، المروية عن النبي وأهل بيته الأطهار عليهم سلام الله الملك القهار.
إذ به يعرف الحلال من الحرام ومنه يستفاد أوامر الشرع ونواهيه، وأحكام الواجبات والمستحبات والمحرمات، وفي الحديث مكارم وفضائل، وآداب ومواعظ، وفوائد وفرائد، وحكم ومحاسن، به يسلك سبل الهدى، ويترك طرق الردي، من جعل كتب الحديث أمامه ويطالعه ويتدبر في معانيه كأنه رأى نفسه في مجلس النبي الأقدس أو أحد من الأئمة عليهم السلام وهو يخاطبه ويتكلم معه.
ولعلم الحديث قواعد وأصول، وأحكام واصطلاحات، ذكرها المحدثون و الفقهاء - رضوان الله عليهم - في كتبهم منها ما يتعلق بالحديث كالعلم بأخبار الآحاد والتواتر، والصحيح، والضعيف، والمسند والمرسل، والمجهول، والمضمر، وغيرها ومنها ما يتعلق بالرواة ونقلة الآثار كالعلم بالجرح والتعديل والتوثيق والتضعيف، والبحث في هذا الموضوع في كتب رجال الحديث والدراية.