انه لا منافاة بين الروايتين بوجه، لان العرفان إنما يرجع إلى ذات الشئ وحقيقته ولا يتصور للممكن الإحاطة بمعرفة ذات الواجب تعالى شانه وكنهه، وكل ما يتصوره المخلوق ويميزه بوهمه بادق معانيه مخلوق مثله مردود إليه، فالكل متحير في معرفة كنه الباري تعالى وتقدس وإنما يعرف تعالى شانه بالوجه والآثار، وتختلف معرفة طبقات الناس في هذه المرحلة بمراتب شتى واما اليقين فهو متعلق بوجود الباري تعالى شانه ووجود القيمة والحساب والجنة والنار وعالم البرزخ وكيفياته وهكذا مما غاب عن الابصار واستتر عن الانظار، والوصول إلى أعلى مرتبة اليقين بحيث لا يتصور مرتبة فوقها لا ينافي مع عدم معرفة الذات حق المعرفة، فلا منافاة بين الروايتين بوجه، وتوهم المنافاة إنما نشأ من عدم التدبر في معنى المعرفة و اليقين.
هذا، وقد اقتضى منى بعض الاخوان الكشف عما روى في مصباح الشريعة عن مولانا الصادق عليه السلام من أنه قال " العبودية جوهرة كنهها الربوبية فما فقد من العبودية وجد في الربوبية وما خفى من الربوبية أصيب في العبودية ".
فأقول: حمل الجوهرة على العبودية على وجه الاستعارة ان قلنا بان الجوهر يختص لغة بالعين ولا يعم الأعيان والاعراض، ضرورة ان العبودية من الاعراض لا الجواهر، والتعبير بالكنه حينئذ أيضا على وجه الاستعارة، إذ كنه الشئ حقيقة عبارة عن الحقيقة والذات التي لا تكون الا في الجواهر.
وكيف كان لما كانت العبودية تنتهى إلى درجة تحصل معها حكم الربوبية كما في الحديث القدسي " عبدي أطعني حتى أجعلك مثلي، إذا قلت للشئ كن فيكون " جعلت الربوبية كنهها فكما ان الشئ ينتهى في مقام التحديد إلى حقيقته وكنهه ليس وراء الحقيقة شئ ظاهر فكذلك العبودية ترتقى وتنتهى في مرحلة الكمال إلى الربوبية فما فقد من الكمال في أوائل العبودية أصيب في الربوبية التي هي منتهى درجة العبودية وما خفى عن الربوبية من كمال التذلل والتخضع أصيب في العبودية.
هذا ما ظهر لي في معنى الرواية على فرض صحة سندها.