كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار " فالحكمة بمعنى الغاية الكمالية التي ينتهي إليها الفعل وتحرز فائدته، فهو أن يخلق من المادة الأرضية الخسيسة تركيب خاص ينتهي بسلوكه في مسلك الكمال إلى جوهر علوي ويتقرب إلى ربه تقربا كماليا، فهذه غاية النوعية الإنسانية.
غير أن من المعلوم: أن مركبا أرضيا مؤلفا من الأضداد واقعا في عالم التزاحم محفوفا بعلل وأسباب موافقة ومخالفة، لا ينجو منها بكله ولا يخلص من إفسادها جميع أفراده، فلا محالة لا يفوز بالسعادة المطلوبة منه إلا بعض أفراده. وليست هذه الخصيصة مما يختص بالإنسان بل جميع الأنواع المتعلقة الوجود بالمادة كذلك.
ولو فرض شئ من هذه الأنواع غير متأثر من شئ من العوامل المخالفة، كالنبات - مثلا - غير متأثر من حرارة وبرودة ونور وظلمة ورطوبة ويبوسة كان في هذا الفرض إبطال تركيبه الخاص أولا، وإبطال العلل والأسباب ثانيا، وفيه إبطال الكون، فافهم ذلك.
ولا ضير في بطلان مساعي بعض الأفراد أو التركيبات إذا أدى ذلك إلى فوز بعض آخر بالكمال والغاية الشريفة، فإن الخلقة المادية لا تسع أزيد من ذلك وصرف الكثير في المادة الخسيسة التي لا قيمة لها في تحصيل القليل من الجواهر الشريف العالي استرباح حقيقي بلا تبذير أو جزاف.
وأما الشبهة الثانية: - قوله ما الفائدة في التكليف... إلى آخره - فمغالطة من باب إسراء حكم الفاعل الناقص إلى الفاعل التام، والتكليف وإن كان أمرا وضعيا اعتباريا لا يجري في متنه الأحكام الحقيقية، إلا أنه في المكلفين واسطة ترتبط بها الكمالات اللاحقة الحقيقية بسابقتها، فهي وصلة بين حقيقتين.
توضيح ذلك ملخصا: أنا لسنا نشك عن المشاهدة المتكررة والبرهان أن ما بأيدينا من الأنواع واقعة تحت الحركة التي ترسم لكل منها بقاء بحسب حاله ووجودا ممتدا يبتدئ من حالة النقص وينتهي إلى حالة الكمال، وبين أجزاء هذا الامتداد الوجودي