وإيضاحه أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل، وذلك لأن إثبات الصانع ومعرفة النبوة وسائر ما يتوقف صحة النقل عليه لا يتم إلا بطريق العقل، فهو أصل للنقل الذي تتوقف صحته عليه، فإذا قدم على العقل وحكم بثبوت مقتضاه وحده فقد أبطل الأصل بالفرع، ويلزم منه إبطال الفرع أيضا، إذ تكون حينئذ صحة النقل متفرعة على حكم العقل الذي يجوز فساده وبطلانه، فلا يقطع بصحة النقل، فلزم من تصحيح النقل بتقديمه على العقل عدم صحته!
وإذا كان تصحيح الشيء منجرا إلى إفساده، كان مناقضا لنفسه، فكان باطلا. فإذا لم يكن تقديم النقل على العقل بالدليل السابق، فقد تعين تقديم العقل على النقل، وهو المطلوب. إذا علمت هذا تبين لك جليا وجوب تأويل ما عارض ظاهره العقل من الآيات القرآنية التي هي ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات، إما تأويلا إجماليا ويفوض تفصيله إلى الله تعالى كما هو مذهب أكثر السلف، وإما تفصيليا كما هو مذهب أكثر الخلف. فالإستواء في قوله تعالى: الرحمن على العرش استوى، هو الاستيلاء، ويؤيده قول الشاعر:
قد استوى عمرو على العراق من غير سيف ودم مهراق وقوله تعالى: وجاء ربك والملك صفا صفا، أي جاء أمره. وقوله: إليه يصعد الكلم الطيب. أي يرتضيه، فإن الكلم عرض يمتنع عليه الإنتقال بنفسه. وقوله سبحانه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، أي يأتي عذابه. وقوله تعالى: ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين، أو أدنى، أي قرب رسوله إليه بالطاعة، والتقدير بقاب قوسين تصوير للمعقول بالمحسوس.
وقوله صلى الله عليه وسلم: إنه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة فيقول هل من تائب فأتوب عليه هل من مستغفر فأغفر له، معناه تنزل